عزيز مشواط / مجتمعات الطاعة وصناعة الموت

تصغير
تكبير
أفادت دراسة تحليلية لانتماءات منفذي الهجمات على أهداف مختلفة في مجموعة من الدول الأوروبية والآسيوية أن المنفذين يتمتعون بالخصائص التالية: كلهم يتجاوزون الحدود الوطنية، ولا يعيشون في البلد الذي ولدوا فيه، بل لهم في بعض الأحيان جنسيات مختلفة، وكلهم قاموا بدراسات حديثة في الغالب من مستوى عالٍ، وينتمون في معظمهم إلى مستوى اجتماعي متوسط، وعاشوا مرحلة الشباب على النمط الغربي، وكلهم قطعوا الصلة مع عائلتهم، قبل أن يتحولوا إلى قنابل بشرية! فهل يتعلق الأمر بمجرد عمليات تخدير شديدة المفعول تعرضوا إليها، أم أن الأزمة أعمق من ذلك، وترتبط بطبيعة الثقافة الرائجة في مجتمعات الانتحاريين؟
يتأرجح الانتحاريون بين ثقافتين مزدوجتين، ثقافة المجتمعات الغربية التي يعيشون فيها، حيث الحرية حق مقدس، وثقافتهم الأصلية حيث انعدام الحرية والديموقراطية، وانتشار البؤس. ينشأ عن هذه الازدواجية فراغ قاتل يستغله محترفو صناعة الموت لـ «زراعة» العنف والتطرف الناتج عن ضيق الأفق، إذ إن الانتحاريين، سواء عاشوا في مجتمعاتهم الأصلية أو الغربية، يرتبطون ارتباطاً وثيقاً بسلوكيات تعتبر فيها الطاعة هي القاعدة وما عداها استثناء.
نقصد بصناعة الطاعة، تلك الوسائل والأدوات المستعملة التي تسحق الفرد وتحوّله إلى مجرد تابع، تحدد الجماعة مصيره رغماً عنه. إن ملاحظة بسيطة لثقافة المجتمعات العربية والإسلامية تجعلنا نستنتج اشتراكها في «صناعة الطاعة»، لأنها، تاريخياً على الأقل، لم تعرف المطلب الديموقراطي، ولم تتحوّل الحرية على امتداد تاريخنا الطويل إلى قيمة سامية، وبقيت حتى الآن عند مستوى الشعارات السياسية والخطب الرنانة. وكلما ارتفعت أصوات المنادين بها، إلا وتعرضت إلى التهميش والإقصاء، بل إلى الإبادة بالعنف والقوة. رغم اختلاف وسائل صناعة هذه الطاعة والحفاظ عليها، فإن استغلال الدين لتحقيق هذا الهدف يبقى واضحاً. أما مصير الحركات التي تريد الخروج عن الطاعة، فغالباً ما انتهى إلى التنكيل والقتل وإحراق كتب الداعين إليها وتهجيرهم. لم تستطع محاولات الفلاسفة والمفكرين كلها، عبر التاريخ زعزعة «نسق الطاعة»، حيث تواجههم دائماً اتهامات جاهزة، أقلها الزندقة وإفساد عقول الناس.

ما تعرض إليه ابن رشد في الماضي من تنكيل، وما يتعرض إليه نصر حامد أبو زيد، وسعد الدين إبراهيم من مضايقات في الوقت الراهن، شاهد على مصير دعاة التنوير في مجتمعات الطاعة. ويشترك في هذا المتطرفون، كما بعض الأنظمة الأصولية، في قمع كل محاولة تحررية. أما الهدف المشترك وغير المعلن، فهو تكريس مفاهيم الطاعة العمياء في صفوف الأتباع بطرق ثقافية مختلفة وملتوية.
يقول عالم الاجتماع العراقي علي الوردي في كتابه «وعاظ السلاطين»: «كان كل سلطان جائر يجد دائماً من يدعو له بالتوفيق في جوره». في الوقت الراهن تستمر ممارسات «الوعاظ»، لكن هذه المرة باستخدام تقنيات أشد تأثيراً، حيث تصطف آلات إعلامية ضخمة وإمكانات تربوية هائلة، ومؤسسات ثقافية بتمويلات خيالية من أجل هدف واحد: تكريس مجتمعات الطاعة، وتخدير الفرد بقتل روحه الإبداعية وتحويله إلى آلة صماء تستجيب لنداء العاطفة الديني.
إن نسق الطاعة هذا يجعل من استقطاب الانتحاريين عملية بسيطة. وهكذا حينما يهتف بن لادن إلى الأمام، لا يتردد العشرات من المغفلين في الاستجابة الفورية، رغم أنهم بفعلتهم هذه، يرجعون بمجتمعاتهم مئات الأعوام إلى الوراء. إنهم مادة خام «قابلة للاشتعال» في كل وقت وحين، تقودهم فكرة لا تتوقف المواقع الإلكترونية والفضائيات والكتب الرخيصة عن ترويجها.
تقوم صناعة الموت في مجتمعات الطاعة على تمجيد الماضي، والتضحية بالنفس من أجل استعادته. وهكذا كلما عرض حادث جديد أو قضية مستحدثة، يعود المتطرفون إلى النص الديني للإجابة عنه، بل إن أسئلة الحاضر كلها تجد لها في الماضي السحيق جواباً مثالياً. إنهم يستعيرون كلمات الماضي لوصف أحداث الحاضر. وهكذا يصبح تفجير برجي التجارة العالمية «غزوة» وقتل الأبرياء في «مومباي» عمليات جهادية في «دار الكفار». إنه سفر إلى الماضي بحثاً عن أجوبة حاضر مأزوم.
يعود السبب الرئيسي إلى فشل المجتمعات العربية الإسلامية في تكسير سلوكيات الطاعة، إلى الفهم الديني لتلك الحركات... وعلى هذا الأساس يتم رفض مظاهر الحداثة كلها، فتصبح النقابة بدعة، والحزب ضرباً من أعمال الشيطان، والديموقراطية مؤامرة غربية وجب محاربتها.
إن صناعة الموت وإنتاج الانتحاريين نتاج لنسق الطاعة والولاء الأعمى للماضي السحيق. من هنا، وجاهة طرح مشاريع تربوية وإعلامية وتثقيفية تجعل من الديموقراطية والحرية ثقافة يومية وليست مجرد شعارات للاستهلاك. إن الديموقراطية والحرية مطلبان متلازمان، مهمتهما الأساس تشجيع الحوار بين الثقافات المختلفة، لإعطاء أهمية أكبر للاعتراف بالآخر، وتكريس ثقافة تنطلق بالأساس من «أؤمن بالاختلاف، إذاً أنا موجود».
عزيز مشواط
صحافي وباحث مغربي، وهذا المقال هو منشور بالتعاون مع مشروع «منبر الحرية» www.minbaralhurriyya.org
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي