العنصرية ضد الآخر بالسخرية منه في المسرح الكويتي

أزياء الريف العراقي ارتداها الممثلون للتنفيس عن الغضب ضد صدام حسين

تصغير
تكبير
| كتبت ليلــى أحمــد |
عندما يفرغ الفن من محتواه الانساني الحقيقي، والذي يكون معبرا عن هموم وآمال شعبه ومتبنيا قضاياه، يتحول الى «فقرة» فكاهية على خشبة المسرح أو في المسلسلات أو في البرامج الترفيهية، وبذلك يلغى دور الفن في أن يكون راصدا لمجتمعه في فترة زمنية محددة.
في المسرح العالمي كانت كتابة دور لرجل مجنون أو سكران تعبيرا حقيقيا عن مجمل أزمات تعيشها مجتمعات تعاني شعوبها من قهر سياسي تمنع حريات التعبير في أوطانها، ويصبح حوار السكير او المجنون، هو «المعبر» عن هموم مواطني بلده ويصبح مقبولا، وبالتالي فلا حرج عليه، لانه بالآخر.. مجنون او سكران فاقد للاهلية العقلية بالرغم من ان حديثه هو «عين» العقل الانساني.

في وطننا العربي والخليج، الامر يتم تداوله في قمة الجهل لماهية الفن وهدفه، وفي تقديم الآخر / الغريب والبعيد عن ثقافتنا المحلية، فأثناء عرض الشخصية الدرامية يتحول الفن الى «أي شيء» من خلال استعراض لـ «كاركترات» وتقليد شخصيات نمطية معروفة الفكر والسلوك ولديها لزمة في الحركة او في الكلام او الازياء أو أمور أخرى، تؤدي في الجمهور الى الضحك عليها، وليس مشاركا معها في ضحكة تشبه البكاء على أوضاعنا الاجتماعية او الاقتصادية او السياسية التعيسة والتي تسبب ازمات للانسان، انت - مع الأسف- تضحك على بلاهة انسان او على شكله وازيائه فهذه الشخصيات النمطية لا قول سياسياً او اجتماعياً لديها، وليس هذا مهما لدى المنتجين المسرحيين، الاهم أن تضحك على «الهبل» المعروض امامك والذي يتم تقديم مساحة له للتواجد على خشبة المسرح لأطول فترة ممكنة، من أجل إضحاك النظارة /الجمهور ان كان حاضرا للعرض المسرحي او مشاهدا خلف شاشة التلفزيون.
عمر الشخصية في «الكاركتر» الفني قصير يموت بسرعة، فإن أردت تقديم شخصية من الجنسية الآسيوية- مثلا- يتحدث كلاما مكسرا، وذي شكل محدد من حيث نحول الجسد وسمرة البشرة، أنت هنا لا تستطيع تكرار الشخصية الاسيوية في مجمل أعمالك، لذا تكون ولادتها مقرونة بشهادة وفاتها.
الموت فقرا
ربما في تاريخ السينما المصرية نتذكر «كاركتر» الممثل المصري الراحل اسماعيل ياسين الذي قدم دور المرأة العانس سليطة اللسان، والاغلب من أدواره يمثل بها دور العبيط جدا بمحدودية فائقة لا تتجاوز «عاهتها» فإن قررت الرجوع لأرشيف السينما المصرية واختيار افلام اسماعيل ياسين فأنت لا تعرف بأي ظرف تاريخي قدمت هذه الافلام، فهي لا تعبر عن حالة حراك سياسي عام لتفهم - ينطبق هذا على الاعمال الخليجية ايضا والاعمال السورية التراثية الاكثر نضجا في مثل هذه الرصد المهم.
اسماعيل ياسين كانموذج فني عربي شهير، قدم بها افلاماً عدة تحمل اسمه، والنتيجة ان الناس ملت من تكرار دور الأهبل، فنساه منتجو السينما، ومات فقيرا بعد عز الشهرة، وكذلك ماتت شخصية الممثل اللبناني الاصل عبدالسلام النابلسي الذي شارك بعدة افلام مصرية مع نجوم الغناء والتمثيل منهم عبدالحليم حافظ ورشدي اباظة وانتهى فنيا ومات ايضا فقيرا على صعيد ذاكرة الناس، وكذلك «كاركتر» طريف آخر لعبدالفتاح القصري صاحب أشهر عينين متعاكستين « أحول» وشنب مبروم، له لزمة شهيرة وهي قوله لأي ست جميلة «ياصفايح الزبدة السايحة».
كاركترات الخليج
في الاعمال الخليجية، كانت الكاركترات تمثل «فقرة كوميدية» غير موظفة دراميا لتقديم فعل انساني، فالممثل سمير القلاف الذي ادى دور نجل الفنان الراحل خالد النفيسي في مسلسل «درب الزلق»، كان أهبل بلا عمق في الشخصية، كما عمل مع الفنان القدير عبدالحسين عبدالرضا في مسرحيات ومسلسلات كثيرة ومثل دائما دور «جليل» العقل وخفيف السلوك... ثم كرر نفسه، و... مات فنيا بعد ذلك.
وكذلك دفن الفنان محمد جابر حين حبسه المنتجون في دور «العيدروسي اليمني» في سنوات الستين والسبعين من القرن الماضي، ولم ينقذه الا مسلسلات سنوات بعد الالفين في القرن الجديد بعد أن «لون» في أدائه التمثيلي وعاد للحياة شخصية درامية انسانية بمواصفات فنية حاضرة في حياتنا الومية
كما ردمت «ام عليوي» الذي ادى ادوارها الفنان الراحل عبدالعزيز النمش في سنوات الستين، وبعد ذلك ونتيجة لكثرة تواجد العنصر النسائي في الاعمال الفينة ظلت «ام عليوي» حاضرة لنقص الوجه النسائي لعمر فوق الخمسين سنة، الا ان فتوى خليجية بتحريم تقديم الرجال لأدوار نسائية دفع المنتجين الخائفين من عدم تسويق إنتاجهم المسرحي والتلفزيوني لعدم عرض اي عمل عليه حتى رحيله جسديا عن دنيانا.
كما قدمت حياة الفهد شخصية نمطية في دور للمرأة العراقية في مسلسل «عيال الذيب» وايضا عبدالعزيز المسلم في دور عبيد «الاهبل» في مسرحيات عدة من تأليفه وإنتاجه.
تشويه الآخر
ما قدمه المسرح الكويتي أو مسلسلاته عن الشخصيات الاخرى تنز عنصرية والحط من قدر الآخر، مثل تقديم الشخصية المصرية بإطار «كاركتر» سكرتير تنفيذي لرجل اعمال كويتي او رجل محدود العقل من اقاصي الصعيد المصري، او الايراني الخباز او المقاول النصاب أبو السروال واللغة المكسرة، ليس ذلك فحسب، فنفس المجتمع الكويتي يقدم صورة البدوي أو المنحدر من أصول ايرانية، وهو كويتي ابن نفس المجتمع يتم تقديمه في إطار به حط من قدره، وجعله «فقرة» غير إنسانية في مشهد مسرحي، مع ان كل هؤلاء لا نشك ان بينهم الاسوياء والعظماء الذين غيروا مسار تاريخ مجتمعاتهم نحو الافضل. والكثير من الجنسيات الاخرى هم «زوار» لهم اقامة شبه دائمة وتم استهلاكهم بكثرة، كما برز دور الرجل العراقي الافندي ابن المدينة أو الشخصية الريفية بما تملك من سخاء في الشكل واللهجة من خلال ارتداء الازياء الريفية لرجال العراق.وأغلبهم بيدهم «كاسور» وهي الطبلة العراقية الصغيرة جدا، والمستخدمة في اللون الغنائي الريفي. وربما الاشهر ممن قدم هذا اللون طارق العلي وولد الديرة وحسن البلام من ممثلي الكويت في مجموعة اعمال.
تنفيس عن الغضب
ومن خلال مسرحيات استدعتها الضرورة الدرامية والواقع السياسي والنفسي الاجتماعي بعد تحرير الكويت 1992 قدم عبدالحسين عبدالرضا مسرحية «سيف العرب» وقام بأداء دور صدام حسين فيما قام طارق العلي بأداء دور العسكري العراقي، وكانت المسرحية عبارة عن « تنفيس عن غضب» على احتلال نظام صدام حسين للكويت، مجرد تقليد الرئيس العراقي في كاركترات ضاحكة، انه «فعل تنفيس درامي» لكي يرتاح الجمهور ويضحكوا على من احتل بلادهم.
هذه الاعمال المسرحية التي تم تقديمها أعمال وقتية، ، تدل على لحظة تاريخية وسياسية واجتماعية بتاريخ البلد، لكنها لا تقدم شخصيات إنسانية ثرية، وهي اعمال لا تبقى طويلا في الوجدان الاجتماعي، بعد ابتعاد المرحلة التاريخية عن ذاكرة الناس وحدوث تغييرات جديدة، وهذه الاعمال تصنف فنيا انها «رد فعل» لا أكثر على الاحتلال، وتسجيل موقف، والفن لا يعتاش على ردود الأفعال السريعة لانها تنطفئ بمثل ما انتهى الظرف التاريخي، الفن الجيد لا يسجل مواقفه بدون عمق غضب شعبي عارم، فعمر المشاعر ليست بعمر العقل المستنير، والرائي لمستقبل وطن.. واليك هذا المثل. الاعمال المسرحية «سيف العرب» و«مخروش طاح بكروش» لاحمد جوهر، وحتى مسرحية «باي باي عرب» لعبدالحسين عبدالرضا لم يكن بها استشراف لوطن / الكويت أثناء الاحتلال وبعد التحرير، كان مسؤلو البلاد يهدفون لوأد التجربة الديموقراطية برمتها، وتغيير الدستور لنكون بعد شمس الديمقراطية بلدا يعمل بمجالس شورى كما دول الخليج، وهو شكل يبدو ديمقراطيا لكنه بعيد عنه لانه لا يعتمد على الانتخاب الديموقراطي الشعبي الحر في فرض ارادة الشعب من خلال مجلس الأمة. ليكون جهة تشريعية لأمة هذا البلد.
مجلس شكلي
كان الهدف الغاء مجلس الامة والدفع نحو المشاركة الشكلية للشعب - ولادة المجلس الوطني في جدة - ورغبة مبيتة لالغاء النظام الديموقراطي الدستوري. فكانت مسرحيات « للضحك على» عدو عراقي - احتل ارضنا.. والغانا من خارطة الوجود، دون التطرق لآفاق ما ينتظرنا من حكم متفرد بيده كل قرارات حياتنا، وخال من الرؤية المستقبلية. ونشبه بذلك صدام حسين الذي حكم العراق بالحديد والنار لوحده.
وفي تلك المسرحيات، تم ربط فعل صدام الشائن بشعب العراق بأكمله، الامر الذي زاد من الهوة النفسية بين الشعبين الكويتي والعراقي الذي بدوره عاش قهرا في ظل حكم صدام حسين، واحسب ان هذا « الاستفزاز» والشحن النفسي لا علاقة له بهدف الفنون السامية، التي تقارب بين هموم وأفكار وأحلام الشعوب وتقدم نفسها تماما كما هي، وعليها زراعة الفهم للاخر والحب لا تكريس الكراهية لشعب بأكمله لا علاقة له بتفرد صدام حسين في احتلال الكويت، ان السياسة وتداعيات دكتاتورياتها لا تستمر طويلا في طغيانها، والعراقيون جيراننا شئنا أم ابينا ولا بد من عودة العلاقات معهم بعد أن تغير نظام الحكم هناك، وهو ما حدث فعلا، لكن - مع الاسف - الفنانون وكتاب المسرحيات يتحملون بجهلهم التام وانعدام ثقافتهم وغياب الرؤية المستقبلية «بؤس» ما تم تقديمه من سفه فكري وأخلاقي.
ريف العراق
اللباس الريفي العراقي، هو «بطل» مسرحياتنا الكويتية، الذي تم استخدامه ككاركتر نمطي وجد للضحك عليه فقط، مع ان الازياء الريفية هي واحدة من مجموعة ازياء اشتهرت بها «المناطقية» الجغرافية المتعددة والمختلفة بحسب كونها من الريف او الجيل او الصحراء واخيرا المدينة في العراق الشقيق تماما كما تتلون انماط الاغنية العراقية بحسب مرجعيتها البيئية، وتاريخ وجدانها الشخصي.
تتضمن الازياء في مجمل العراق على ثراء بيّن في الاختلافات الشكلية، وبحسب مهمتها في حياتهم اليومية في بيئة معينة، فهناك الازياء لشمال العراق « الاكراد» أزياء مختلفة للافندي ابن بغداد العاصمة وهؤلاء ازياؤهم مختلفة نسبيا عن ملابس أهل البصرة وعن ازياء «المعدان» المختلفة، وهذا غير عن ازياء العراقيين البدو. فلماذا يركز مسرحنا وفنانونا على رجل الريف العراقي فقط.
تشويه متعمد
اذاً.. الذاكرة الشعبية بالكويت ربطت الشخصية العراقية فقط بأزياء أهل الريف، وعلى ما تتسم به الشخصية الريفية من بأس وقوة شخصية وحنان أبوي، «تدمع عيون الرجال من شدة تأثرهم» نلاحظ ذلك في حرقة قلب الشعر الغنائي الريفي العراقي « ولدى رجال عشائر العراق أصول وتمسك بـ «كلمة» الرجال الأصلية، ومحافظة على الارث التقليدي لأخلاقيات الريف العالية القوام، والتي الى جانب ذلك لها مواسم - حصادها وافراحها وحزن على كساد وشح المطر وبالتالي اختفاء المحاصيل الزراعية، خلقت هذا في نفس المطرب العراقي شجناً يصل لنياط قلبك.
فهل الشخصية العراقية الريفية التي تقدم على مسارحنا هي الشخصية الريفية نفسها في مناطق وجودها.. طبعا لا..
إن المسرحيات الكويتية ونظرا للتكرار النمطي في عرض الشخصية الريفية بازيائها.. البشت الاسود او البيج والابيض المبروزة حواف عباءته بخيوط الذهب، مع العقال الضخم والشماغ الاسود والابيض واسلوب ولغة «لهجة» نطقهم كان هو شعار مرحلة اسفاف جديدة يؤديها الممثلون على خشبات مسارح الكويت
عنصرية تجاه الاخر
الشخصية العراقية تم التركيز عليها أكثر بسبب احتلال صدام للكويت، لذا.. فالعراقي هو «كاركتر» لشخصية.. غير سوية، اما مغني من الريف يبكي وهو « يدق» على الكاسور / الطبلة مع مرافق يحمل آلة عود وكمان، أو هو ثائر سريع الغضب او سكير.. وبدأ يبرز كفقرة شبه ثابتة على خشبات مسرح الكويت بعد التحرير من براثن الاحتلال الصدامي، وبالرغم من ان الشخصية استنفذت طاقتها الداخلية بعد تكرارها الممجوج، الا انهم مازالوا يقدمونها كما شخصية الآسيوي في عروضهم المسرحية وبرامجهم ومسلسلاتهم.. كما اشكال الشخصيات النمطية الاخرى.. الآسيوي النحيل والمكسر اللغة.. الصعيدي الصعب الفهم... الايراني النصاب. اللبناني الازعر، السوداني الكسول ونهاية باحتقار الشخصية النسوية في غالبية عروضهم المسرحية.
تاريخ عظيم
إن تاريخ العراق عميق الجذور، ليس فقط ما قدمه قانون حمورابي في تشريع اول قانون في حضارة بابل في العالم كله، وليس ما تركه الآشوريون من عظمة خالدة، وليس لان العصر العباسي كان به مكتبات بغداد تنتج بمطابعها أهم ابداعات الفكر الانساني في معركتها ضد الجهل.. ليس جامعة المستنصرية العريقة الميلاد، ليست عالم الفكر، ومحدث الشعر مثل بدر شاكر السياب احد أهم محدثي الشعر العربي، ليس مئات المبدعين في مجالات الفكر والفن المسرحي والغنائي والثقافة، ليس ذلك فحسب، انه الانسان العراقي البسيط الذي ناله تنكيل مضاعف وعاش حرقة القلب على قتل ابنائهم بمجانية مطلقة عبر تاريخهم المعاصر.
كل حضارة العراق هو تاريخ ملغى بالنسبة لغالبية فناني الكويت، وليس لديهم الا تقليد غير سوي يتم تقليل شأنه عمدا، لخلق ضحكة سمجة على شخصية انسانية قدمت للعالم الكثير.لذا ماتت أعمالهم ولم تبق في ذاكرة الناس، ولا تراها الا منزوية لقلة الاقبال عليها وحبوسة في «دي في دي» واشرطة الفيديو في محلات البيع أو في بسطات سوق الجمعة. ولا تعرض حتى في البرامج المنوعة على محطات تلفزيونات الكويت والخليج، وهذا قدر طبيعي لها.
جسر المحبة
اذا كان الفن هو جسر للثقافات.. ورابط بين شعوب العالم، على الرقابة الحكومية التابعة للمجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب منع تقديم كاركترات تحتقر شأن أي جنسية او لون بشرة انسان وان تكف عروضنا المسرحية في تقديم ادوار « هبلة» للمرأة.. بل فرض عقوبات مشددة على ذلك.
أليست الكويت كدولة قانون قامت بالتوقيع على وثيقة حقوق الانسان التي تحرم العنصرية بجميع أشكالها يجب أن تكون متسقة معها في جميع مظاهر حياتها وبالاخص الفنون، أليس على المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب أن تكون متسقة مع مواثيق حكومتها الملزمة مع الامم المتحدة، فلماذا اذاً تجيز رقابتها أعمالا تحط من قدر الاخرين في مسرحياتنا المحلية.
اليس على الفنانين «المفترض بهم أن يشكلوا وجدان الشعب» أن يرتفعوا فوق جراح صدام حسين، وألاّ يزيدوا في « لغم» النفس الكويتية والاجيال الجديدة ضد ماض لن ننساه لكنه مضى، ويدفعون لكراهية الآخر، اليس عليهم مسؤولية فتح نوافذ اكسجين جديدة تجاه الشعب العراقي وشعوب العالم أجمع، والتدقيق بمشاكلنا الحقيقية وهموم مواطننا بدلا من تعس ما يقدمونه على خشبات مسارحنا؟
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي