No Script

«المسيح»

تصغير
تكبير

وجهت جمعيات إسلامية في اوروبا وبعض مثيلاتها في الشرق بتحريم مشاهدة مسلسل «المسيح» الذي انتجته وتعرضه «نت فلكس»، كذلك انتقدت هيئات كنسية دولية العمل واعتبرته بطريقة او بأخرى «ضربا في العقيدة وتأسيسا للتشكيك».
المسلسل ببساطة يتحدث عن شخص مثير للجدل (ملتبس الانتماء بين الديانات) يخاطب كل ابناء ملة بشكل هادئ ومقتضب ضمن جرعات إيمانية وعقائدية عامة.
رواية معروفة ومطروحة دائما، منها ما يخرج من النصوص ومنها ما يخرج من الروايات ومنها ما يخرج من الاساطير، لكن البناء الذي أراد هذا المسلسل بالتحديد تشييده هو فكرة التعلق بـ«مخلّص» له قدرات قد تبدو غير طبيعية تجاوزا لمشاكل طبيعية ومن صنع الناس. وفي هذا الإطار تحديدا لا يعود هذا الشخص الذي ظهر بشكل غامض هو الحبكة الرئيسية للعمل بل يصبح تفصيلا يقترب احيانا من ندرة الحضور امام المشهد العام المليء بطغيان السياسة وأوحالها وفسادها معطوفة على التضاؤل التدريجي للقيم والمبادئ الانسانية.


الرجل يظهر في سورية، ثم في سجن اسرائيلي يختفي منه ونراه في بيت المقدس. تطلق رصاصة على طفل فيزيلها من جسده. يغادر إلى أميركا وتحديدا قرب كنيسة يعاني راعيها من شظف العيش وقلة اعداد المؤمنين والمتبرعين كما يعاني من زوجة سكيرة وابنة ضائعة بين الموبقات. يساعده ويفرج همه فتستقيم الكنيسة وتحظى بدعم مالي ويكثر روادها بمن فيهم الذين يجلبون المرضى أملا في شفائهم. ثم يذهب الى واشنطن مع انصاره ويمشي على الماء قبل البيت الابيض ليلتقي بعدها الرئيس الاميركي الذي يعجب به ايضا خالقا له مشاكل مع مستشاريه الذين يقرّرون التخلّص منه بالتوافق مع جهات عدة.
الاستخبارات الأميركية توصلت الى ان الرجل إيراني يهودي أمه مسيحية كان يعيش في العراق، وتحدثت مع شقيقه التوأم الذي كشف ان شقيقه عولج لفترة في مستشفى الطب النفسي كونه يعتقد نفسه المسيح وانه تعلم فنون السحر وايهام الناس بانه قادر على ممارسة اعمال خارقة من عمه المشهور بدور الساحر في السيرك. وانه لم يختف من السجن الاسرائيلي بل اعترف احد الحراس بانه هرّبه، وان مشهد الرصاصة في بيت المقدس قد يكون مفبركا في اطار قدرات السحر والايهام التي تعلّمها خصوصا ان احدا من الجنود لم يطلق النار، وكذلك الامر بالنسبة الى السير على الماء. وانه درس في جامعة اميركية وتعلم كيف يخاطب الناس هناك وان طائرة روسية خاصة هرّبته من الاردن الى اميركا مع انكشاف علاقات له بروسيا وبعض اللاجئين الاكاديميين اليها... اضافة الى انه فشل في شفاء طفلة مصابة بالسرطان توفت نتيجة توقيف امها الدواء واعتقادها انه يمكن ان يعالجها روحانيا.
اذاً، مفاتيح كثيرة في المسلسل تركز على الطبيعة البشرية الخالصة للرجل مع موهبة ومهارات والعاب سحر، لكن ذكاء كاتب المسلسل لا يريد للمشاهد ان يركن الى الاثباتات السابقة الاقرب الى العقل، بل يدخل دائما بعض اللقطات التي تظهر الرجل ضليعا بمعرفة المستور، مثل ماضي المحقق الاسرائيلي وهواجسه، وتاريخ مسؤولة الاستخبارات الأميركية الأسري، وسقطات ابنة القس الاميركي الاخلاقية، وقدرته التاثيرية على الرئيس الاميركي... الى نهاية المسلسل التي تظهر الرجل حيا بعد سقوط الطائرة التي تقله الى اسرائيل ليحاكم هناك.
العمل درامي - فني حتى لو كانت الجرأة عماده، لكنّها جرأة محسوبة بفائض التقدير لحسابات المعتقدات. ولذلك نرى تباينا بين رجال دين من مختلف الأديان حول تقييم الرجل مع ميل اكبر لرفضه، ونرى شكوكا كبيرة بين تابعيه، لكننا نرى في المقابل ازمة جيل شاب مهووس بعشق الذات والسيلفي وخوض التجارب ولو على حساب الاخلاقيات، وازمة محتل اسرائيلي لبلاد لا يعرف كيف يوصلها الى موانئ السلام والصلح والتعاون، وازمة سيطرة داخل البيت الابيض بين اجنحة ومستشارين كل منهم يريد ان يفرض على الرئيس القرار الذي يريده ولو ورطه في حرب او تصعيد تلبية للوبي الشركات الذي اوصله الى مركزه، وازمة اجتماعية اسرية تتحكم بمشاعر وسلوكيات من يفترض انهم مؤتمنون في الاستخبارات الأميركية على ارواح الناس، وازمة دور روسي يريد سحق الكثير لاستعادة مجد توازن مع اميركا حطمه انهيار المنظومة الشرقية، وازمة جهل بالدين والدنيا والسياسة لدى جمع كبير من المسلمين والمسيحيين واليهود... الى آخر ما هنالك من قصص تجعل بطل المسلسل فعلا تفصيلا على حساب القضايا الحقيقية.
أما تحريم مشاهدة المسلسل خوفاً من التأثير على المعتقدات فأمر يستحق مسلسلات ومجلدات. قصة هذا الرجل الخيالية مرت مئات المرات في اعمال فنية وروائية، لكن قصة اخرى واقعية تمر كل يوم في عالمنا لا تواجه بتحريم، وان ووجهت باستنكار فعلى استحياء. هي قصة انتشار عدد كبير من رجال الدين على امتداد هذا الشرق يمارسون غسل ادمغة المريدين للقبول بتفسيرات خاصة للنصوص توجههم الى حيث يريدون.
نعيش زمانا يبدو فيه الرجل الوهمي الذي يلعب دور البطولة في مسلسل «نت فلكس» سائحاً سويسرياً امام ادوار البطولة الفعلية التي يقوم بها بعض رجال الدين، فهم يؤلفون الكتب عن «التوحش» ومتع العذاب والمعاناة والنفير الى العالم الآخر عبر قتل النفس وحصد العشرات في الطريق الى هناك. هؤلاء يصدقون مع الوقت (ويصدقهم اتباعهم) انهم اصحاب قدرات وكرامات وانهم اختيروا لقيادة هذه المرحلة «التاريخية» او تلك، بل سمعنا احد رموزهم يقول انه أمر في المنام بأن يفجر ويقتل وهو لا يعصي الأمر.
اذا كان تحريم عمل فني مرده الى الخوف من هز العقائد فبين ظهرانينا من يفتك بهذه العقائد ويدمرها عبر فتاوى وممارسات باسم الدين فيما الدين براء منها. وما على المؤسسات الدينية الاسلامية والمسيحية التي حذرت من مسلسل عبر أثير افتراضي الّا ان تتفرغ لوقف مسلسل استخدام الدين الدائر على الارض يوميا لضرب الدين والقيم الانسانية وحجب دماء العباد، اللهم الا اذا كانت إما خائفة او متواطئة، ففي الحالتين صمتها افضل لأن الانسان السوي المتصالح مع نفسه ومبادئه لن يغير قناعاته عمل فني او روائي.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي