تجاور الكلمة للكلمة هو تفاعل يعطي معنى جديداً وبديلاً آخر وأفقاً مفتوحاً للجملة، وتجاور البيوت واشتراك الناس في السكن يعطي معنى المجاورة والجار، وصيغة التجاور في القواميس اللغوية هي من «تفاعل» ويقال في اللغة مرادف الكلمة أو ضدها أو جمعها ويقال أيضاً الكلمات المجاورة.
في الإرث الحضاري الكويتي ظهر معنى التجاور والمجاورة في سفن السفر والغوص وخيمة المحكوم وديوان الحاكم، وفي الميناء والسوق والقافلة والبراحة.
أما الشكل المستدام والمستمر والأكثر قوة في التجاور والمجاورة هو الديوانية الكويتية، التي تمثل معلم التجاور الاجتماعي الرئيسي، كونها قوة تعليمة وتنشئة اجتماعية داخلية فيها قيم الاستماع والإنصات والحكاية والخلاف والاختلاف والتعلم والمحاكاة والتلقين المباشر وغير المباشر.
وقد نتج عن تنوع المهاجرين إلى الكويت من جهة، واتصال الكويتيين في الدواوين بتجارب الآخرين من جهة أخرى، تنوع ثقافي تفاعلت معه الديوانية عبر شكلها وتلاقحت وأفادت في اثراء النموذج الكويتي الذي لا يشبه إلا نفسه في توفير مساحات اجتماعية، تمتاز بكونها فضاء عاماً وخاصاً، وفي الوقت نفسه تشكل انطباعات ومواقف المواطنين وتتنقل عبرها الأفكار الجديدة والتعبير عن القديم.
الديوانية نتاج اجتماعي لبيئة البادية والبحر، حيث الديوانية هي امتداد لمجلس شيخ القبيلة لاتخاذ القرارات في المناسبات الاجتماعية، ومراقبة تجار البحر لسفنهم وبضائعهم في الميناء، وقد بلغ عدد الدواوين قبل النفط في الكويت 250 ديوانية، تشكلت عبر حكايات التجاور على السفن وأخبار الرياح من الصحراء والغوص في الأعماق ليحكي عجائب المخلوقات وتلهف السيب للخبر القادم معه، إنها حكايا التاجر وشيخ القبيلة ومقاربتهما للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ويمكن أن أتجرأ بالقول إن الديوانية هي التي أسست الدولة ومؤسساتها وليس العكس، فعلى سبيل المثال لا الحصر، حين أغلقت الجمعية الخيرية العربية تم نقل كتبها في ديوانية، ومن الديوانية تم إطلاق الدعوة لتأسيس مجلس الشورى، ومن الديوانية تم تأسيس المدرسة المباركية والأحمدية والكثير من الأندية الثقافية والمؤسسات الأهلية، وفي الديوانية جرت انتخابات المجلس التشريعي 1938 وفيها تمت الدعوة والحث على الانتخابات، وقبل الغزو كانت دواوين الاثنين، وفي الديوانية نزلت حكومة الكويت بعد الغزو العراقي الغاشم، وفي الديوانية كان يتم استقبال زوار الكويت المهمين مثل محمد رشيد رضا وحافظ وهبه وكذلك الإنكليز وغيرهم، ويشير الدكتور هشام العوضي في كتابه «هبة» إلى أهمية الديوانية في نقل الأفكار إلى الحد الشبيه بفكرة الصالونات الأدبية التي كونت الفضاء العام في أوروبا وساعدت على النهضة، فقد كانت الدواوين تلعب هذا الدور ومنها نقل التجار فكرة المجالس النيابية إليها عبر سفرهم للخارج وتجاورهم مع الآخر.
لن تحل كثير من مشكلاتنا الحاضرة حتى وإن جلبنا لها الحلول من كل مكان، ما لم يشارك الناس في التخطيط والقرار، الناس أدرى وأوعى من صناديق التنمية والبنوك العالمية، إنما تحسن الصناديق الدولية طرق النظر وأساليب العمل فقط.
الديوانية مثل جسر بين ماضي لا يمكن نسيانه، وبين حاضر لا يمكن أن يدوم، وبين مستقبل لا يمكن الاطمئنان إليه ما لم نصنعه بأنفسنا.
أما البرلمان فهو الكيان الذي حول الديوانية إلى مساحة نفعية، يتم النظر إليها على اعتبارها مجموعة أصوات يجب أن تصب في الصندوق وتصمت طوال العام، ورغم ذلك فالشباب يصرخ في الدواوين ليس لأنهم لا يعرفون الصبر ولكن لأنهم مستاؤون من فرص مهدورة وتواقون إلى إيجاد فرص جديدة.
@moh1alatwan