قال الله تعالى: «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً»، أي إن الإنسان يولد ناقص الإنسانية، وجاهلاً بكل شيء، ولهذا فإن المولود في حاجة إلى استكمال إنسانيته واكتساب الخبرة المطلوبة لكسب رزقه وحماية نفسه، والله - سبحانه - زوّد الإنسان بالقدرة التي تعينه على التعلم والتقليد، والحقيقة أن التقليد واحد مما مُيّز به الإنسان على الحيوان وهو مظهر من مظاهر تكريم الله للإنسان، وإن كان بين الحيوانات والطيور من لديه القدرة على التقليد - كالببغاء مثلاً - إلا أن قدرته محدودة للغاية.
والتقليد هو عبارة عن محاكاة من لا يملك الخبرة لمن يملكها، والتقليد قد يكون في السلوك والزي والموقف الاجتماعي وطرق استخدام الأشياء... وأحياناً قد يكون في المسائل الفكرية والاعتقادية.
الإنسان يميل إلى التقليد لأنه في الأساس يميل إلى التلقائية، فهو لا يجد الهمة لأن يشق في كل شيء طريقاً جديداً، أو يبتدع وسيلة جديدة، وما ذلك إلا لأنه لا يفكر ويجتهد إلا عند الضرورة، ولهذا فإن التقليد في الشؤون الإنسانية لا يكون مضمون النتائج وكم قلّد طاه في طريقة طهيه للأكل لطاهي آخر، وكم قلّد مطعم مطعماً في طريقة طهيه للطعام، ولم يستطع الوصول إلى النكهة نفسها، وكم من أب قلّد أحد أصدقائه في تربية أبنائه، ولم يحصل على النتائج عينها، وهذا يعني أن التقليد ليس مسألة سهلة كما نظن.
كثيراً ما ينظر الناس إلى التقليد على أنه وسيلة تبقيهم في حيز التنظيم، ومن يتبنى هذا المنظور فلا بد أن يقلد الشيء الإيجابي والحسن، لأن هذا المنظور يعني أن التقليد مضاد للفوضى والعبث والحماقة، لذا على كل واحد منا أن يحيط نفسه بمن يوافقونه في توجهاته العامة، وإن عقله الواعي يمنطق ميوله غير الواعية للتقليد، حتى لا تنتشر كثير من العادات والانفعالات التي تخالف توجهات المجتمع. اليوم نرى الجمهور العريض في بعض المجتمعات يقلد الغرب بسلوكياتهم وعاداتهم وانفعالاتهم وحتى في لغتهم، والراشدون الفاقهون دائماً قليلون، وعلى المرء أن يمضي في سبيلهم ولا يغتر بالسُبل المزدحمة ذوات التقليد الأعمى للصالح والطالح، والصواب والخطأ.
فالخير كثيراً ما يكون مع القلة وليس مع الكثرة، ولطالما الإنسان مقلداً بطبعه، فليقلد الناجحين في أعمالهم والمشهورين بالتوسط والاعتدال من بني مجتمعه، حتى لا يكون إنساناً شاذاً وغير طبيعي بين بني جلدته. مَنْ يحاول ويخطئ أفضل بكثير ممن يمعن في التقليد أو يغرق فيه، قال أحد الحكماء: لا تغتر بطريق الباطل لكثرة الهالكين فيه، ولا تستوحش من طريق الحق لقلة السالكين فيه.
[email protected]
mona_alwohaib@