خواطر صعلوك

عن كل النيران التي لم نشعلها أبداً!

تصغير
تكبير

علّمونا في المدرسة أن اكتشاف النار كان عن طريق دلك حجرين مع كومة قش، أو عصوين، إحداهما أفقي والأخرى عمودي، ومنذ ذلك الحين ونحن كأطفال وكبار نحاول أن نشعل النار بهذه الطريقة، طريقة نشاهدها في الأفلام أحياناً، ورغم محاولاتنا ونحن صغار لم نتوصل قط إلى انتزاع شرارة واحدة لإشعالها.

إخفاق شخصي كلنا مررنا به، ليس فقط في هذه التجربة ولكن في تجارب كثيرة علمونا إياها ولم ننجح في تطبيقها.

علّمونا أن «نار الحب» لا تنطفئ كنار مجوسية بين من يعبدونها، وأن تجربة الحب كفيلة بتغير معنى الحياة... هكذا أخبرتنا الروايات وهكذا أخبرنا الروائيون في جيلنا، ولكن محاكم الأسرة كذّبت التجربة، وأثبتت إحصائيات الطلاق أن تلك النار المزعومة لم تكن سوى عود ثقاب اشتعل سريعاً وانطفأ عند أول هبة ريح للمسؤولية، أو ربما كانت مجرد «ألعاب نارية» ملونة، مبهرة للنظر لكنها باردة، لا تدفئ بيتاً ولا تطهو طعاماً، وتترك وراءها رائحة البارود والرماد والأبناء فقط.

وعلّمونا أيضاً في كتب اللغة العربية وفي دورات التنمية البشرية كما في الخطابات السياسية أن «شعلة الطموح» هي التي ستقودنا لتغيير العالم.

وقيل لنا ونحن صغار: «أنتم جيل المستقبل، أنتم الشعلة»... كبرنا لنكتشف أننا لم نكن شعلة، بل كنا وقوداً... وقوداً في ماكينات وظيفية ضخمة، نحترق ببطء كل يوم من الثامنة إلى الثالثة، لا لنضيء الظلام، بل لندير تروس البيروقراطية، ولنحصل في نهاية الشهر على ما يكفي لنفي بنصف الوعود التي أخبرناها لأطفالنا، ولنبقى على قيد الحياة لنحترق في الشهر الذي يليه.

عزيزي القارئ، إنني أحدثك في هذا المقال عن كل النيران التي فشلنا في إشعالها، ولكن أرجو ألا يمنعك ذلك من إشعال نار «الغاز» وتحضير كوب شاي بالنعناع أو قهوة لذيذة لنفسك، ثم العودة لإكمال هذا المقال...

لقد فشلنا في إشعال نار «الدهشة» وانشغلنا بملء «الدلاء» بالمعلومات، ونسينا أن التعليم الحقيقي هو «إيقاد شعلة»... فشلنا في إشعال نار الفضول في عقول أطفالنا. تلك النار التي تجعلهم يسألون «لماذا؟» و«كيف؟» بشغف، لا بخوف من الامتحان، لقد أورثناهم الإجابات الجاهزة، وتركنا «نار السؤال» تنطفئ، وهي الوقود الأول لكل ابتكار وحضارة.

أما الخديعة الكبرى أو ما يمكن أن نطلق عليه «المفاجأة الكبرى... سمير سمكرة... ارجع خطوة لورا»، فكانت في «نار الغضب للقدس» التي اعتقدنا أنها ستحرق الظلم الصهيوني. ظننا أننا نملك بداخلنا بركاناً سيثور في وجه الخطأ، لكننا اكتشفنا مع الوقت أننا تحولنا إلى كائنات «مطفأة»، نجيد التذمر في المقاهي وعلى منصات التواصل الاجتماعي، نمارس «الثورة الرقمية» بضغط أزرار الإعجاب للمؤدين والغضب للمطبعين، ونظن أن وهج الشاشة هو وهج التغيير... لقد استبدلنا النار الحقيقية بضوء LED أزرق بارد، يوهمنا باليقظة ونحن في أعمق درجات السبات، وللمرة الواحدة بعد الستين، ننتظر الإبادة القادمة!

في الواقع عزيزي القارئ أن في البحر قواقع، فقد فشلنا أيضاً في إشعال نار «الاستخلاف» المرتبطة بالإنتاج والإعمار، وفشلنا في إشعال نار «الصناعة والزراعة» بأيدينا... ورضينا بالاستهلاك البارد، ونسينا أن النار الحقيقية هي نار الأفران التي تصنع الحديد، ونار المختبرات التي تطور الدواء واستبدلناها بنار «الاستهلاك» السريع.

ربما عزيزي القارئ، المشكلة لم تكن في الحجر، ولا في القش، ولا في المدارس التي أخبرتنا بالتجربة ولا في العصي التي فركناها حتى أدمت أيدينا... المشكلة كانت فينا نحن...

نحن جيل بارد، يرتجف من الصقيع رغم الاحتباس الحراري، ويشعر بالحر الشديد رغم التغير المناخي، ورغم كل هذا البرود، فيبدو أن النار الوحيدة التي نجحنا في إشعالها ببراعة، هي نار القلق التي تلتهم أعصابنا، ونار الحسرة على ما فات... أما نيران «المعنى» و«الأثر»، فقد بقيت مجرد رسومات في كتب العلوم المدرسية، وصوراً في خيالنا، ودخاناً بلا لهب.

عموماً، كل نارٍ لا يوقدها الإيمان... رماد... وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر... وكل ما لم يُراد به وجه الله... يضمحل.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي