القدرة على التجريد تعني القدرة على صناعة المفاهيم والتعامل مع أفكار وخبرات خارجة عن إطار المعايشة اليومية، وعن المعرفة الشخصية. عندما يعزل الإنسان نفسه ويعريها عن الظروف الحاضرة، ويدفعها ويزجها في ظروف أخرى يخمنها ويتخيلها، ويشكل لنفسه سلوكيات واستجابات تتناسب مع تلك الظروف، فهو يخطط لحاضره ومستقبله، لذا نجد أن مَنْ لا يستطيع أن يتجرد يواجه ارتباكاً في التعامل مع الأشياء الحاضرة والمستقبلية.
متّع الله- جل وعلا - الإنسان بالقدرة على التخمين، والتجريد، واستشفاف آفاق خارجة عن حدود معارفه وخبراته، وهذه النعمة تشكل أحد الفوارق بين الإنسان وبقية المخلوقات، والناس يتفاوتون تفاوتاً ذا معنى في هذه القدرات، وهذا التفاوت مصدر مهم من مصادر تفاوت رؤيتهم الخاصة للذات والآخر والحاضر والمستقبل.
الضعف في القدرة على التجريد يسبب إشكالاً للمرء، وهو العجز عن النقد الذاتي... أي توضيح ميزات الذات وعيوبها، وتبيين موقعها على خارطة المجتمع، وذلك لأن النقد الذاتي يتطلب أن يقسم ذاته إلى قسمين... ذات ناقدة وذات منتقَدة، كما أن عليه أن يستكشف المعايير المتنوعة التي على أساسها سيتم النقد، ذلك يعني أن يكون الواحد منا الحجر والنحّات في الوقت نفسه، وإن لم نستطع فسنعاني من تقويم ذواتنا، فالإنسان المعجب بنفسه يصعب عليه العثور على وجوه قصورها وسلبياتها، والمصاب باحتقار ذاته يصعب عليه العثور على ميزاتها وإيجابياتها.