في طفولتنا، كان هناك في كل حي تقريباً شقة متواضعة مستأجرة أو ملحق تسكنها سيدة لديها أبناء كثر تقوم ببيع الحلوى والشوكولا والسكاكر في بيتها بأسعار تنافسية مع البقالات. كنا نتهافت عليها، رغم منع أهلنا، كي نشتري أكثر بالمصروف نفسه.
كانت بنت البياعة معنا في المدرسة تنظر إليها المعلمات وأولياء الأمور نظرة شفقة لحاجتها، وأحياناً يتصدقون لها بالثياب والأموال. أما نحن، فكنا نعتبر بنت البياعة حارسة البنك التي ستعلن لنا موعد افتتاحه، لنهجم عليه ونقتني ما يمكن اقتناؤه.
البياعة غالباً وافدة تسكن في مناطق خارجية، وينظر إليها نظرة تكاد تكون دونية لفقرها في زمن تحدثت مسرحياته عن تذمر الأغنياء من تقليد الفقراء لهم، حتى كاد المرء لا يميز ظاهرياً بين الغني والفقير.
تغير المجتمع، صارت المهنة البسيطة التي تترزق بها بعض النسوة كالطبخ والخياطة وتصفيف الشعر أحياناً للصرف على أيتام محل جذب للأغنياء، عندما حسبوا إيراداتها وقارنوها بمصاريفهم التي لا مورد لها سوى المصروف الذي يحصلون عليه من الأب أو الزوج. وهو إن كانت ميزانيته مفتوحة، إلا أن الاستقلال المادي مغر.
عادت الظاهرة القديمة التي اختفت بعد اختلاف التركيبة السكانية بصورة جديدة. بياعة كشخة، وبنت البياعة ما فيها أجر ولا صداقتها تغر، لأن موعد البضاعة ونوعها وطريقة تسلمها معروف في «السوشيال ميديا». وإن تم غالباً إخفاء اسم وهوية أصحاب «الهوم بزنس»، لكنهم معروفون بسبب صغر المجتمع الكويتي وكل يعرف أخاه. وصارت البياعة الغنية محل جذب أكثر، لأنها غير محتاجة، فتقدم أفضل من التي تضطر إلى تقديم سلع أقل جودة تحت وطأة الحاجة. لم يعد الناس يشترون للمساعدة، فتعاطفهم مع الفقراء قل عندما قل فقرهم وزادت أموالهم بسببهم.
وبدلاً من أن يشكو الأغنياء من تقليد الفقراء لهم، صار يشكو الفقراء من تقليد الأغنياء لهم من دون أن يتعاطف معهم أحد، لأن الفقراء والأغنياء زملاء مهنة... بياعة واحدة في «إنستغرام» اختلفت مسمياتها في مجال البيع والشراء، تميز الغني من الفقير فيها أن الفقير يصرف أكثر بطريقة استعراضية لما حصل عليه أخيراً. أما الغني الذي اعتاد الحياة المرفهة، فلا يرضى بالتبذير.
بنت البياعة الغنية لا تظهر في «السوشيال ميديا» إلا بحساب «براي?ت»، وبنت البياعة الفقيرة صارت «فاشينيستا».
الدرس المستفاد من الحكاية، لا تسخر من فعل ثم تأتي بمثله، فمن سخرن من البياعة صرن بياعات، ومع ذلك بياعة عن بياعة تفرق، فالطبع يغلب التطبع.
reemalmee@