هناك أسباب تجعل من الإنسان، إنساناً عظيماً. قد نختلف في تعريف العظمة ومتطلباتها وتجلياتها، إلا أن جميع المقربين منّا يتفقون على أن والدّي كانا من العظماء.
عندما دخلنا إلى عالمهما الشخصي ورأينا الهموم التي تسيطر عليهما، ورؤاهما وأحلامهما، وأولوياتهما، والخطوط الحمراء التي رسماها لنفسيهما، كما رأينا عاداتهما وتقاليدهما ومنهجيتهما، عرفنا وعشنا عظمتهما، رغم أن كل هذه الأمور ليست شفافة بالقدر الكافي إلا أن الداخل عليهما لا يخرج من غير هدية من عظمتهما.
ولأنهما من العظماء، كانا يمتلكان رؤية على درجة جيدة من الوضوح، رؤية لنفسيهما بما يحملان من نقاط قوة وضعف، ورؤية لواقعهما بما فيه من فرص وتحديات، ورؤية لمبادئهما وعقائدهما وأهدافهما النهائية، ورؤية لأوساطهما الاجتماعية، وما يمكن أن يقدماه من عون... كان (والداي) من أعظم العظماء لأن رؤيتهما كانت تتصل للشأن الدنيوي بالشأن الأخروي، إنهما ينظران إلى الدنيا على أنها ميدان يضيق كثيراً على طموحاتهما وهمومهما، فوصلاه بميادين الآخرة الرحبة الفسيحة، فصار لعظمتهما معنى الديمومة والاستمرار، وصارا يعطيان الدرس تلو الدرس في الأخلاقيات العملية التي لا يكون العظيم عظيماً حتى يتحلى بها.
جعل والدّي هدفهما الأسمى الفوز برضوان الله عز وجل، وأخذا ينظران إلى المال والأبناء والنفوذ والذكاء والحسب والنسب والوظيفة والعلم وكل ما يملكان على أنها أدوات للحصول على ذلك الهدف، فأخذا في استخدامها بجدية ودأب ومن دون ملل أو كلل، وهما في كل يوم يكبران ويكبران إلى أن أصبحا عظيمين بشمائل وسمات خاصة بهما.
من عظمتهما انهما وفرا لنا نوعاً من التفاعل بيننا وبينهما، بالإجابة عن الأسئلة التي كنا نلقيها عليهما، وبالالتجاء إليهما والاحتماء بهما، جعلانا نعجب بهما منذ الطفولة، ونؤمن بحكمتهما ونثق بشفقتهما علينا، اتاحا لنا أن نقتبس من عقليهما وروحيهما وعاداتهما ما نكمل به شخصياتنا، وكل ما يساعدنا على الاندراج نحو النضج والاكتمال.
بذلا جهدا كبيراً في تربيتنا، لأنهما على يقين بأن جهدهما مأجور، وأعمالنا الصالحة في صحائفهما - إن شاء الله تعالى - ولأنهما كانا السبب في وجودنا، وهما اللذان دلانا على الخير، لذا نكتب في كل سبتمبر رثاءً يليق بعظمتهما؛ والداي اللذان فقدناهما منذ أعوام مديدة يخيل إلينا أنها دقائق لما تحمل صدورنا من حسرة وألم على فقدهما. فقدت أمي في سبتمبر العام 2005، وفقدت أبي في سبتمبر 2010... رب اسكنهما مقام الشهداء والصديقين، مقام العظماء العليين، رب ارحمهما كما ربياني صغيرا، واغفر لي كما بررت بهما كبيراً.
[email protected]mona_alwohaib@