محمد الدعمي / أصول النظرة الدونية للديموقراطية في مجتمعات الشرق الأوسط التقليدية

تصغير
تكبير

لا يملك مؤرخ الأفكار إلاّ وأن يشعر بالحيرة حيال تلكؤ الديموقراطيات وحركات الحريات المدنية، على أنواعها، في دول الشرق الأوسط، خصوصاً وأن مثل هذه الحركات والأنظمة قد قطعت أشواطاً لا بأس بها في دول مماثلة، من جوانب عدة، لدول الشرق الأوسط. والأدلة كثيرة على ذلك، فإذا كان هناك من يعتقد أن مجافاة أو ازدراء الحريات والأنظمة الديموقراطية إنما هي من صفات الأمم الشرقية عموماً، فإن نجاح تجارب الديموقراطيات والحريات في دول شرقية أخرى كالهند، من بين دول أخرى يأتي رداً على من يعتقد أن الديموقراطيات والحريات لا تنتشي ولا تزدهر إلا في الدول الغربية. أما إذا كان هناك من يحاول لصق غياب الحريات وضعف الديموقراطية بالأديان وبطبيعة الثقافات المحلية، فإنه مخطئ كذلك، خصوصاً وأن هذه الحركات الإنسانية قد نجحت في دول شرقية يدين غالبية سكانها بالديانة الإسلامية، الأمر الذي يتبلور في ديموقراطيات لا بأس بتواريخها، كما عليه الحال في دول كماليزيا وباكستان وتركيا.

إن هذه الملاحظات العامة توجب على المتابع محاولة التنقيب في الأسباب الكامنة أو الخفية التي قادت إلى ازدراء الحريات والديموقراطية في دول الشرق الأوسط طوال عقود. ربما قادنا علم الاجتماع إلى شيء من الإجابة المفيدة، خصوصاً من خلال توسيع مفاهيم العائلة والأسرة وتطبيقها على المجتمعات والدول التي تعتمد أنظمة أبوية، إذ تكون الإجابة على فكرة أن الأمة أو المجتمع إنما هي عائلة واحدة، ولكن موسعة تحت ولاية إنسان واحد، هو «ولي الأمر» الذي، كما يعتقد العامة، حظي بالحكمة وبالرؤيا وبالبصيرة الكافية التي لا يملكها أحد سواه، الأمر الذي يؤهله للحكم المطلق ولسحق الرأي الآخر. هذا ما يفسر إطلاق الإعلام توصيفات من نوع «الأب القائد» على رؤسائهم، كما حدث في العراق على عهد الرئيس السابق أحمد حسن البكر.

لقد لاحظ علماء الاجتماع، خصوصاً في حقل علم الإنسان أن هناك أنواعاً ثلاثة من العوائل ظهرت عبر تاريخ البشرية:

(1) العائلة التي يكون الأب هو صانع القرار فيها، وهي النوع الأكثر شيوعاً في المجتمعات الشرقية، خصوصاً الإسلامية.

(2) العائلة التي تكون الأم هي صانعة القرار فيها، وهي ذلك النوع من العوائل الشائعة في المجتعات البدائية في أفريقيا وجزر جنوب المحيط الهادي، حيث تكون الأم (وليس الأب) هي المنتج أو الجامع للقوت لإطعام العائلة والأولاد.

(3) العائلة الديموقراطية: وهي العائلة الأكثر شيوعاً في المجتمعات الغربية، خصوصاً في المجتمع الأميركي، إذ يشترك الجميع، الأب والأم والأبناء بتوفير موارد الأسرة، كما يشترك الجميع بأنشطة تبادل الرأي والنقاش لصناعة قرارات العائلة الأكثر أهمية.

إن النوع الأول من العوائل حيث يكون الأب، هو مصدر غذاء الأسرة وحمايتها، هو الأكثر انتشاراً في مجتمعات الشرق الأوسط. وإن توسيع مفهوم العائلة الذكورية ليشمل المجتمع بأسره أو الدولة بأسرها إنما يمكن أن يرجع إلى طبيعة الحكم الفردي إبان حقبة الإمبراطورية العثمانية والإمبراطوريات القديمة كالإمبراطورية الصفوية، حين يكون السلطان العثماني متمتعاً بسلطات لا يمتلكها أحد غيره، وهي سلطات مستوحاة أو مستقاة من فكرة الباب العالي بالنظر لما أوتي من هالة تسمح له بالاستغناء عن آراء الآخرين والاستخفاف بها، حتى وان كانت آتية ممن هم أكثر خبرة أو حكمة منه.

والحق، فإن هذه القداسة التي أحاط السلطان العثماني نفسه بها، وهي القداسة التي سمحت له باتخاذ عشرات الآلاف من الجواري والعبيد في الـ«السراي» الخاص به، لم تتلاشَ مع سقوط الإمبراطورية العثمانية، خصوصاً بعد أن حاولت الكولونياليات الأوروبية التي حلت محلها في الدول العربية أن تجد صيغاً مقبولة وقريبة من الواقع والممارسات السابقة لحكم البلدان العربية والمسلمة التي وقعت تحت هيمنة أو وصاية بريطانيا أو فرنسا.

لقد تواصل هذا الاتجاه الخاطئ، خصوصاً بعد حقبة الاستقلال التي شهدتها الدول العربية، إذ لاحظ بعض الحكام الوطنيين الجدد ضرورة الحفاظ على البعد الروحي للحكم، وهو البعد الذي يحاط به الحاكم المطلق والذي يؤهله لركل آراء الآخرين ولازدراء أدوارهم، الأمر الذي يبرر محاولة العديد من الحكام الجدد في الدول الشرق أوسطية تتبع أصولهم في التراث العربي الإسلامي، فمثلاً حاول شاه إيران المخلوع في احتفالات مرور ألف سنة على تأسيس الامبراطورية البهلوية تتبع أصوله العائلية إلى أسرة فارسية شاهنشاهية عتيقة يمكن أن تتوالد عبر القرون لتمنح الشاه محمد رضا بهلوي «آريامهر» السلطة المطلقة لحكم البلاد والعباد من الآن وإلى الأبد.

لذا تكون الأنظمة السياسية الديموقراطية أو الليبرالية الآتية من العالم الغربي شيئاً جديداً غير معهود في تراث أمم الشرق الأوسط التي اعتادت توسيع مفهوم العائلة الذكورية التي يسيطر عليها الذكر الأسمر القوي، الأمر الذي يفسر النظرة الدونية التي تخص بها الديكتاتوريات الأنظمة الديموقراطية ومفاهيم الليبرالية والحرية الشائعة في العالم الغربي، خصوصاً بعد القرن التاسع عشر.

إن الارتفاع بمجتمعات الشرق الأوسط إلى مستوى تقبل وقبول الحريات الفردية والجماعية والأنظمة الديموقراطية المتطورة توجب على المتابع البدء بعملية إعادة تثقيف كبرى واسعة، تبدأ مع النشء والشبيبة وتتخلل الأنظمة المعرفية والتربوية بأسلوب القواعد الأولية (grassroots) إذ يتم تعريف هذه الفئات الشابة بمفاهيم الحريات والتحرر والسلوكيات المدنية (civics) والحقوق المدنية، على سبيل التمهيد النفسي والثقافي والتربوي لبناء مجتمعات ديموقراطية تزدهر فيها الحريات وتُحترم عبرها آراء الجميع من دون تعمد سياسات الاضطهاد وقمع الآخرين.




محمد الدعمي


كاتب وباحث أكاديمي عراقي، هذا المقال برعاية «مصباح الحرية» www.misbahalhurriyya.org

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي