نساء في التاريخ / ذات النطاقين... أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها

تصغير
تكبير
يعقوب العوضي

أبوها أبوبكر الصديق رضي الله عنه وهو الاسم الذي اشتهر به وعرفه الناس به. واسمه هو عثمان بن أبي قحافة بن عامر بن عمر بن كعب بن سعد بن تيم بن كعب بن لؤي، وأمها هي قتيلة بنت عبدالعزي بن أسعد بن جابر بن مالك بن حسيل بن عامر بن لؤي، وقد ولدت أسماء في بيت عز وعلم وكرم وحسب ونسب. وقد توفر لأسماء من المجد ما لم يتوافر لغيرها من النساء فأبوها صحابي وجدها صحابي وأختها صحابية وزوجها صحابي وابنها صحابي، فأبوها أبوبكر الصديق وجدها أبوعتيق والد أبوبكر وأختها عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وزوجها الزبير بن العوام حواري الرسول الكريم وابنها عبدالله بن الزبير رضي الله عنهم أجمعين. وقد أطلق عليها الرسول صلوات الله وسلامه عليه لقب ذات النطاقين عندما شقت نطاقها الى نصفين «والنطاق قطعة من القماش تستعمل لشد الظهر به» وجعلت في إحداهما احتياجات سفر الرسول الكريم يوم هجرته والآخر رباطاً لشد السفرة. وكان أن دعا لها الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبدل لها الله عنهما بنطاقين في الجنة، ولذلك سميت بذات النطاقين.

وكان ذلك يوماً مشهوداً لها فقد عملت على كتمان نبأ هجرة الرسول الكريم ما عرضها ذلك لغضب وسخط وعقوبة أبوجهل بن هشام وقد سألها عن أبويها أبوبكر: فقالت لا أدري أين هو فرفع يده أبوجهل ولطمها على خدها وطرح منها قرطها وقد أفحش فيها قولاً خبيثاً منكراً. ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبوبكر في الغار «غار حراء» أثناء الهجرة كانت أسماء تأتي بالطعام اليهما محمولاً في نطاقها. وهكذا تحملت أسماء أذى واضطهاد مشركي قريش في سبيل الله والدعوة الإسلامية. كما اشتهرت بالجود والكرم حتى ضرب المثل بجودها وكرمها. تزوجها الزبير بن العوام بن خويلد. فأنجبت منه عبدالله وعروة والمنذر ومصعب وعاصم والمهاجر وخديجة الكبرى وأم الحسن. وقد قالت عندما تزوجني الزبير لم يكن يملك شيئاً غير فرسه، فكنت أدق النوى وأعلف الفرس وأسقيه وأنقل النوى على رأسي لهذا الغرض. وكان الزبير بن العوام غيوراً وشديداً على أسماء، فشكت ذلك يوماً الى أبيها فقال: يا بنيه اصبري، فإن المرأة اذا كان لها زوج صالح ومات عنها ولم تتزوج بعده جمعهما الله في الجنة. ولما أتيح لها أن تهاجر الى المدينة فراراً بدينها الى الله ورسوله كانت أتمت حملها بابنها عبدالله بن الزبير فلم يمنعها ذلك من تحمل مشاق الرحلة الطويلة الى ان بلغت قرية قباء وهي تقع على بعد ميلين من المدينة حتى وضعت وليدها. فكبّر المسلمون وهللوا في المدينة بهذا المولود حيث كان أول مولود يولد للمهاجرين في المدينة. فحمله رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعه في حجره. وأخذ شيئاً من ريقه الطاهر وجعله في فم الصبي ودعا له وكان أول شيء يدخل في جوف عبدالله بن الزبير في دنياه هو ريق الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد طلق الزبير بن العوام أسماء بنت أبي بكر وقيل في طلاقها ان  سبب ذلك يعود الى كبر سنها وقيل ان الزبير ضربها فصاحت بابنها عبدالله فأقبل عليها فلما رآه أبوه قال: أمك طالق إن دخلت: فقال عبدالله: أتجعل أمي عرضة ليمينك؟ فدخل، فخلصها منه فحرمت منه.



وكانت أسماء معروفة بعقلها وعزة نفسها وقوة ارادتها وحسن ايمانها كما اشتهرت بالجود وكانت تقول لأهلها أنفقوا ولا تنتظروا الفضل. وكان ابنها عبدالله بن الزبير قد بويع بالخلافة سنة 64 للهجرة واجتمع على طاعته أهل الحجاز واليمن والعراق وخراسان اثناء خلافة عبدالملك بن مروان وتخلف عن بيعته أبو العباس وابن الحنفية رضي الله عنهما، وكان قد حج بالناس ثماني حجات أثناء خلافته وقاوم قوات بني أمية مدة هذه السنوات حتى حاصره الحجاج بن يوسف الثقفي أمير تلك القوات، ونصب عليه المنجنيق وألح عليه القتال من كل جهة وحبس عليه الغذاء والماء.

وأثناء هذا الحصار قام عبدالله بن الزبير بزيارة والدته اسماء ودخل عليها وقال لها: يا أمي ما ترين وقد خذلني الناس وحتى أهل بيتي

انفضوا من حولي.

وكان لها هذا الموقف العظيم في ردها على ابنها لم ينسه التاريخ مطلقا وقد اشتدت الحرب بين ابنها وبين الحجاج، وهو لقاؤها الاخير بولدها قبل مصرعه بساعات، وكانت امرأة مسنة بلغ بها العمر عتيا وكف بصرها.

فقالت له: ما الذي اقدمك علي في هذه الساعة وصخور الحجاج بن يوسف تقذف بها منجنيقاته جنودك في الحرم وتدمر دور مكة. فقال: جئت لاستشيرك. قالت: تستشيرني في ماذا؟ فقال: لقد انحاز عني الجند رهبة في الحجاج او رغبة عنده ولم يبق معي إلا نفر قليل من الرجال. وهم مهما عظم جلدهم فلن يصبروا إلا ساعة او ساعتين، ورسل بني امية يفاوضونني على ان يعطوني ما شئت من الدنيا اذا القيت السلاح وبايعت عبدالملك بن مروان. فماذا ترين؟ فعلا صوتها وجهر وقالت: الشأن شأنك وانت اعلم بنفسك. فإن كنت تعتقد انك على حق وتدعو إلى الحق فاصبر وجالد كما صابر اصحابك الذين قتلوا تحت رايتك، وان كنت اردت الدنيا فلبئس العبد انت اهلكت نفسك واهلكت رجالك فقال لها: ولكني مقتول اليوم لا محالة. فردت عليه بقولها ذلك خير لك من ان ترسل نفسك للحجاج مختارا فيلعب برأسك صبيان بني امية، عش كريما ومت كريما، والله اني لأرجو ان يكون عزائي فيك حسنا، بعد ان تقدمتني او تقدمتك. فإن في نفسي منك حرجا حتى انظر ما يصير اليه امرك. ثم قالت: اللهم ارحم طول نحيبه وظمأه من هواجر اهل المدينة وبره بأمه. اللهم اني سلمت فيه امرك ورضيت فيه بقضائك فأثبتني في عبدالله ثواب الشاكرين.

«فأشرقت اسارير وجهه وقال بوركت من أم وبوركت مناقبك الجليلة فأنا ما جئت اليك هذه الساعة إلا لأسمع منك ما سمعت، والله يعلم انني ما وهنت ولا ضعفت وهو الشهيد على انني ما قمت به ما قمت به حبا بالدنيا وزينتها، وانما غضب لله ان تستباح محارمه وهأنذا ماض إلى ما تحبين فإذا انا قتلت فلا تحزني علي وسلمي امرك لله فقالت: الحمد لله الذي جعلك على ما يحب وما احب، اقترب مني يا ابني لأتشمم رائحتك وألمس جسدك فقد يكون هذا آخر العهد بك. فأكب على يديها ورجليها يقبلها ويتشمم رائحة امه وهي تقبله وتتلمس جسده وقد لاحظت شيئا صلبا يتنطقه فقالت له: ما هذا يا عبدالله فقال لها: هذا درعي فقالت: يا بني ما هذا لباس من يريد الشهادة فقال: انما لبستها لأطيب خاطرك واسكن قلبك. فقالت: انزع هذا عنك فذلك اشد لنخوتك وشجاعتك واقوى لوثبتك. واخف لحركتك، والبس بدلا منها سراويل مضاعفة حتى اذا صرعت لم تنكشف عورتك، فنزع عبدالله درعه وشد عليه سراويله مضاعفة كما اوصت والدته وقبل ان يمضي إلى معاودة القتال قال لها: اني اخاف ان امتني الحجاج ان يمثل في جثتي فقالت له: «ما يضير الشاة سلخها بعد ذبحها» يا بني وقد دعت اسماء لابنها ربها ان يرحمه ويؤتيه ثواب الصابرين ثم دارت معركة حامية بينه وبين الحجاج ولم تغرب شمس ذلك اليوم حتى لحق عبدالله بن الزبير بربه ومضى إلى جواره وقام الحجاج بصلبه. فعلمت اسماء بمقتل ابنها وذهبت للحجاج فقال لها: يا أماه، ان امير المؤمنين اوصاني بك، فهل لك حاجة؟ فقالت له: لست لك بأم ولكنني ام المصلوب على رأس ثنية الحجون، وجاءته بعد ثلاثة ايام وابنها مصلوب وكانت عجوزا قد كف بصرها فقالت للحجاج: «اما آن لهذا الرجل ان ينزل ولهذا الفارس ان يترجل» فقال الحجاج عنه هذا المنافق: فقالت: والله ما كان منافقا بل كان صواما قواما بارا بأهله فقال: انصرفي يا عجوز فإنك قد خرفت. قالت لا والله ما خرفت منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يخرج من ثقيف كذاب ومبير (مجرم) فأما الكذاب فقد رأيناه وكانت تقصد (المختار الثقفي) وأما المبير فأنت وقد قال الحجاج بعد صلبه لابن الزبير لا انزله الا اذا شفعت به امه، فمرت يوما على مصلبه فقالت قولتها الشهيرة التي ذهبت مثلا في التاريخ فقال هذه شفاعة وقد انزله من مكانه بعد ان جاءه كتاب عبدالملك بن مروان يأمره بذلك. ولم تطل الحياة بأسماء بعد مصرع ابنها حتى لحقت به بعد عشرين يوما وهي المبشرة بالجنة وقد بلغت من العمر مئة عام ولم يسقط لها سن وهي في تمام عقلها وكان ذلك في العام 73 للهجرة وقد عاصرت اربعة عصور، العصر الجاهلي والعصر الإسلامي وعصر الخلافة الراشدية والعصر الاموي، ومرت بكل الاحداث التي عاشها الاسلام منذ فجره حتى وفاتها رضي الله عنها واسكنها فسيح جناته.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي