من منا لا يجول في ذهنه أفكار، وفي خاطره كلام، وكثيراً ما جلسنا في خلواتنا، وتفكرنا بتاريخ الأحداث والمواقف الحاصلة، وتأملنا بواقع أوضاعنا الاجتماعية، والتربوية، والسياسية، والثقافية، وغيرها، وكان نتاج الخلوات وأفكار الذهن وكلام الخاطر، بعض التساؤلات.
من أراد أن يعمّر منزلاً، أو عمارة، أو مسجداً، أو سوقاً تجارياً، أو... غير ذلك، فلابد من هندسة الهيكل والمخطط حتى تأتي مرحلة التعمير والبناء، وتقوم القواعد والأساسات على متطلبات مواد البناء، واحتياجات المستفيدين من تلك الإنشاءات، وهنا يأتي السؤال الذي ساح في خاطري، وأشعل فتيله في ذهني، إن كان لكل بناء هندسة خاصة به، فأين هندسة بناء النفس البشرية؟ إن الهندسة بمعناها العام هي: القدرة على حل المشكلات!
ولقد جاءت كلمة الهندسة بمعان عدة في القاموس المحيط منها: بأنها العلم الرياضي الذي يبحث في الخطوط والأبعاد والسطوح والزوايا والكميات والمقادير المادية من حيث خواصها وقياسها أو تقويمها وعلاقة بعضها ببعض، وجاءت بمعنى: المبادئ والأصول العلمية المتعلقة بخواص المادة ومصادر القوى الطبيعية وطرق استخدامها لتحقيق أغراض مادية، وتُعّرف الهندسة بأنها: فن الإفادة من المبادئ والأصول العلمية في بناء الأشياء وتنظيمها وتقويمها.
لو اجتهدنا قليلا وأسقطنا معاني الهندسة الاصطلاحية على بناء النفس البشرية، بحيث تتم هندسة العلوم الاجتماعية والتربوية والسياسية وغيرها، بما يتواءم ويتوافق مع تركيبة النفس البشرية، نهندس الرسائل التي نوجهها للناس من خلال العلوم بأنواعها التطبيقية منها والنظرية، بمعرفة وقياس متطلبات النفوس البشرية بإعداد دراسات وبحوث من مختصين وأكاديميين وباحثين، وتكون لها معايير، وقابلة للنزول على الواقع وتطبيقها على النفس البشرية، لعلاجها إما بسد الحاجات، أو إيجاد البدائل التي تساعد على حل المشكلات، من خلال البحث في خطوط وأبعاد النفوس البشرية من حيث صفاتها لقياسها وتنقيحها.
ولا يكون ذلك إلا بالبحث عن أبعاد النفوس البشرية بقراءة تاريخها، ورصد ما تفتقر إليه تلك النفوس، نحن لا نتكلم هنا عن الحاجات الفسيولوجية جوعا وعطشا وأمانا وخوفا... وغير ذلك، نحن نأمل بإبداعات هندسية للحاجات السكيولوجية، التي تتفاوت وتختلف من نفس إلى أخرى، لأن مشاعر الناس حيال المشكلات التي تواجههم، ليست متجانسة ولا موحدة، وكذلك شدة الضغوط الذي يواجهها إنسان لا تتطابق مع الشدة التي يواجهها آخر.
نحن نحتاج ان نبني نفوسا بشرية، بقراءة هندسة عميقة بأحوال وشؤون متطلبات وحاجات تلك النفوس، ولن يتم ذلك إلا بمعايشة الناس ومعرفة ما يجدّ في سلوكياتهم واتجاهاتهم من مفاهيم وأنماط، حتى نستطيع الاستجابة لمتطلبات الواقع وتحدياته بما يؤتلف ويتلاءم مع حاجاتهم، وعلينا التفاعل مع كل حاجاتهم والاهتمام بها وسد النقص الذي يعتريها، ومن الطرق والأساليب التي في غاية الأهمية لبناء النفس البشرية هي حماية الذات وصونها، حتى لا تتعرض للانحرافات الفكرية وغيرها، فتتولد عادات وسلوكات هدامة ومتناقضة تدفع الفرد في اتجاه المجهول، ومنها إلى طريق الثورات النفسية التي هي أشد وطأةً من الثورات السياسية، ومتى ما كان بناءها ضعيف وأساسها ركيكاً، فحتما لا تستطيع مواجهة المواقف والأحداث والمشكلات وتنهار عند أول نقطة في الطريق.
إن المكمن الحقيقي لهندسة بناء النفوس البشرية هو تلك المساحة والمسافة بين ما تحمل النفوس من حاجات، وبين ايديولوجيات الأنظمة التي تناقض احتياجات ومتطلبات النفوس البشرية، من دون رصد وقياس لحاجات النفوس، حتى تكون قادرة على علاج المشكلات من غير اللجوء لأساليب العنف للحصول على متطلباتها وحقوقها.
منى فهد العبدالرزاق الوهيب
[email protected]twitter: @mona_alwohaib