ان التوازن الفكري للمرء شيء مهم ومطلب كل منا يسعى له، ولكن هذا التوازن لا يجعلنا أسوياء التفكير أو يجعل آراءنا صائبة على الدوام بل يُقوم ويحسن من فكرنا ويقلل من تعرضنا لاستشفاف وطرح الآراء والمفاهيم الخاطئة، وغالبا ما تكون آراؤنا أقرب للصواب من الخطأ، إن الآراء التي تقودنا من أصحابها غالبا ما تكون متأتية ومنبثقة من التصورات التي تُصنع بالعقل وتنتج على شكل أفكار يترجمها إلى آراء ومفاهيم ويطرحها على أرض الواقع، ويقود بها الآخرين وتصبح آليات وعلاجات لحل بعض المشكلات التي تعترض المرء في مسيرة حياته. والتصورات هي مفردات التفكير كما أن الحروف هي مفردات اللغة، والتصور هو عملية عقلية صرفة.
ولذلك التصورات الذهنية التي بنيت على أساس أبلج وجلي وجاءت من مصادر صحيحة، كالتي نستقيها من الوحي تكون صحيحة وغير قابلة للخطأ وتحقق التوازن الفكري المنشود لكل مرء، وينتج عنه فكر متوازن وهذا الفكر ينعكس على أرض الواقع ليصبح سلوكا متوازنا، أما التصورات التي مصدرها العقل والعلم المادي وخاصة في الأشياء الغيبية أو ما لا نمتلك عنه العلم الكافي، ويكون المصدر هو العقل باجتهاد أصحابها باعتبار أن العقل هو مصدرا من مصادر التصورات، والعلم المادي الذي لا يعتمد على ارتكازات وأساسات موثوقة غالبا ما تميل للخطأ أكثر منه للصواب، ولكن! ليس للعقل قدرة على استحداث تصورات من تلقاء نفسه إنما هو صندوق الذاكرة لتلك التصورات، التي يتعرف عليها العقل،قد يكون له القدرة على تكوين صورة بطريق التذكر أو التخيل ولكنه في الحقيقة لا يعتبر العقل مصدر من مصادر التصور بل هو الآلة الوحيدة لحفظها والتحكم فيها، والعقل هو مصنع ومنتج للأفكار، فالفكرة التي تتخمر داخله وتتطور تترجم على أرض الواقع كتصور للأشياء أو آليات وعلاجات لأشياء أخرى، والناس يختلفون في مكانة تصوراتهم باختلاف درجاتهم من حيث حصولهم على المعلومة ونوعية تعلمهم وبصيرتهم، إلى غير ذلك من الفروق الفردية بينهم.
أن من مقومات التوازن الفكري هو امتلاك التصورات الصحيحة عن كل قضية يُراد الحكم عليها سلباً أو إيجاباً، والتصور إما أن يكون تصوراً أولياً ساذجاً كتصور الصور من أنهار وجبال وغيرها، أو تصورا معقداً وهو تصور المعاني كالصدق والحق والكذب والصواب والخطأ وتصور المغيّبات وكل صنف من هذه التصورات يحتاج إلى جهد يختلف عن الجهد المراد للصنف الآخر.والفكر لا يكون مستقيما ومتوازنا ما لم تكن التصورات صحيحة، والتصورات الصحيحة هذه مسؤولية المرء نفسه سواء كان مفكرا أو قائد رأي بما يمتلكه من علم بالأشياء وكيف يوظف هذه الحصيلة من العلم بالأشياء لتسعفه وتؤهله لتكوين التصورات الصحيحة التي تُحسن من طريقة التفكير والتي تنتج منها الأفكار والمفاهيم والآراء.
إن الاتزان لا يعني صواب الفكرة ولكن يعني صواب طريقة التفكير،والواقع يشمل الواقع الديني والسياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي لمجتمع ما، فكلُّ تصوُّر لهذا الواقع في أي جزئية من جزئياته يعدُّ فكرًا، إن بعض الناس لا يمتلكون أدوات معرفة الحق في القضايا المتعلقة بالتصورات التفصيلية للواقع، ومن ثَم الحكم من خلالها قد يعرضهم للخطأ أقرب منه للصواب. وحتى نصل إلى التوازن المنشود نحتاج إلى فهم الواقع والوعي بتاريخ المجتمع الفكري وهو تاريخ مشترك لدى الأمم وبنيتها الاجتماعية ومصادرها الدينية ومراحلها السياسية والاقتصادية في كل ما مر عليها من إعصار،حتما سيؤدي إلى استنتاج وفهم الواقع المبني على التصورات الصحيحة التي تؤدي بنا إلى معرفة هل نحن متوازنون فكريا أم لا؟
منى فهد الوهيب
[email protected]