د. بثينة شعبان / كشف للحقائق أم تكريس لها؟

تصغير
تكبير
لغز محيّر للكثيرين من المعلّقين والمحللين السياسيين في أنحاء العالم أحدثه بركان الوثائق بالغة السرية المتسربة من كواليس وزارتي الدفاع والخارجية الأميركية، البركان الذي أطلقه موقع «ويكيليكس» من خلال نشره مئات الآلاف من الوثائق والبرقيات، والمعلومات السرية المتعلقة في القسم الأكبر منها بمنطقة الشرق الأوسط، وما جرى في هذه المنطقة خلال العقد الماضي من حروب على العراق، وأفغانستان، ولبنان، وغزة، شنتها الولايات المتحدة وذراعها العسكرية الموجهة منذ عقود ضد العرب، وكذلك عمليات زعزعة استقرار البلدان العربية وإضعافها بالقواعد العسكرية، وامتصاص السيولة النقدية منها بذرائع مختلفة، وصولاً لاغتيال شخصيات محورية في لبنان، لتحقيق أغراض سياسية وغير ذلك الكثير نراه الآن يوضع على موقع «ويكيليكس»! لماذا، وكيف؟

سارعت محطات التلفزة لإجراء مقابلات مع صاحب الموقع جوليان اسانج، هذا اللغز الآخر، فمن جهة يحصل على كل هذه الوثائق دون عناء ظاهر، ومن جهة أخرى يتمّ تدبير تهمة اغتصاب له في السويد، الأمر الذي جعل القضية أكثر إثارة للرأي العام في المنطقة والعالم، فهل الملاحقة الجنائية لأسانج تهدف للقول ان التسريب غير مسيطر عليه!

وبعد أن تلقى أسانج تهديدات، وطلب اللجوء إلى سويسرا، كشف موقعه عن عشرات الآلاف من برقيات سرية أخرى تمّ تبادلها بين السفارات الأميركية في منطقة الشرق الأوسط ووزارة الخارجية الأميركية، أو بين وزارة الخارجية ومسؤولين عرب، أو بين مسؤولين إسرائيليين ومسؤولين عرباً، وكان الموضوع الطاغي في هذه البرقيات، هو التلاقي بين آراء بعض المسؤولين العرب والإسرائيليين بما يتعلق بإيران، والتركيز في هذه الوثائق على أن الخوف من إيران، ليس مقتصراً على إسرائيل، بل إن عدداً من زعماء الدول العربية يشارك إسرائيل هذا الخوف ويدعو إلى وضع حدّ للطاقة النووية الإيرانية. فهل المطلوب هنا أن نطبق مقولة «عدو عدوي صديقي؟»

واللافت في هذا الموضوع، هو أن معظم السفارات الأميركية في المنطقة، قد سربت محاضر جلساتٍ وأخباراً تهدف في مجملها إلى تشويه صورة العرب، حتى على لسان بعض مسؤوليهم من خلال تأكيدهم على أن تكون الدولة الفلسطينية «منزوعة السلاح ودون سيطرة على مجالها الجوّي ومن دون قدرة الدخول في معاهدات مع أطراف آخرين أو السيطرة على حدودها» (انظر مقال روبرت فيسك ـ جريدة «الإندبندنت» البريطانية، 30 نوفمبر 2010).

كما تحتوي الوثائق على نفي ثمين لـ «تقرير غولدستون»، الذي أصدره هذا القاضي اليهودي حول جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل في حربها الأخيرة على غزة من قبل الجنرال الاحتياطي آموس جيلاد، والذي يلحق الجرائم بأكاذيب إسرائيلية تُضاف إلى سجلهم الحافل بالأكاذيب والتضليل. لا بل إن التسريبات تقذف بدخانها أكثر من ذلك، لتصف نتنياهو على لسان بعض القادة العرب بأنه «جذاب وأنيق». كما أن المبعوث الإسرائيلي إلى إحدى الدول العربية يقول ان زعيمها «لديه رؤية استراتيجية للمنطقة قريبة بشكل لافت من الرؤية الإسرائيلية» (المقال السابق نفسه). السؤال هو كيف يمكن لسفراء الولايات المتحدة في دول عدة أن يسربوا مئات الآلاف من الوثائق السرية، والبرقيات بالغة الأهمية إلى جهة تدّعي حكومتهم أنها خصم لها دون أن تثير أي تساؤل أو قضية ضد هؤلاء السفراء، ودون أن تحاسبهم على إخلالهم بأمانتهم الوظيفية؟

والسؤال الثاني هو لماذا لم نقرأ تسريبات ضد جرائم جهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد) المعروف بعمليات الاغتيال والتعذيب التي يرتكبها ضد قادة ونشطاء الشعب الفلسطيني الأعزل، والتي تشير كل الدلائل إلى تورطه باغتيال الشخصيات السياسية اللبنانية لتحقيق أهداف إسرائيلية معروفة ومعلنة، بل إن ما قرأناه من إيجازات عن هذه التسريبات يتجنب النيل من إسرائيل وجرائمها، بل يعمد إلى تسليط الضوء الساطع على «أن إسرائيل ليست وحيدة في رؤيتها للمنطقة، بل ان الكثيرين من زعماء العرب أنفسهم يشاطرونها الرؤية، والهدف، ويعملون في السرّ مع الإدارة الأميركية لتحقيق ذلك، ولكنهم، وبسبب أوضاعهم في سدة الحكم، وبسبب الظروف القائمة بين العرب وإسرائيل، غير قادرين على الإفصاح عن ذلك، فهم يقولون في العلن مالا يفعلون في السر». فهل أتت هذه الوثائق كي تجبرهم على القول علنا ما يقولونه لأعداء أمتهم سراً، أم هي محاولة مدروسة ضمن مخطط أميركي إسرائيلي لإعداد الرأي العام العربي كي يتقبل بعدها التعامل العلني مع العدو من قبل البعض من زعمائه، بدلاً من تعاملهم السري الحالي؟

ما كشـفته الوثائق «السـرية» من لغز مفاده أن الولايـات المتحدة لا تدعـم عملياً، وليس بالتصريحات الرسمية، الديموقراطية ولا الحرية في منطقة الشرق الأوسط، ومثال تدميرها للديموقراطية الفلسطينية مايزال حياً، مذاع وعلني والجميع يعرف ذلك، وما كشفته الوثائق من تعذيب للسجناء، وخرق لحقوق الإنسان أيضاً، أمور أصبح يعرفها القاصي والداني، ولكنّ الجديد في الموضوع، والذي ربما ٍيقف وراء إطلاق هذا الموقع الجديد لكل هذه الوثائق، هو لإظهار واقع جديد في قلب العالم العربي، يكشف عن مدى الدعم الذي تحظى به إسرائيل واستراتيجيتها، وسياساتها، ورغم كل جرائمها ضد العرب، حتى بين زعماء العرب السياسيين أنفسهم.

لقد غطى الحديث الإعلامي في العالم برمته عن تسريب هذه الوثائق يوم التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني والذي يصادف 29 /11 من كلّ عام، كما أن نشر هذه الوثائق تزامن مع اعتقالات، وتهديدات، وسياسات عنصرية جديدة، تطول المدنيين الفلسطينيين، ومرّت تصريحات ليبرمان بأن كلمة «تجميد الاستيطان «يجب حذفها من المصطلحات الإسرائيلية دون أن يلحظها الكثير من السياسيين العرب، وعادت إسرائيل لاعتقال الأعضاء المنتخبين في البرلمان الفلسطيني، بالإضافة إلى الجرائم الإسرائيلية الشنيعة المرتكبة ضد أطفال فلسطين (انظر «هآرتس» 1 /12 /2010 بقلم آفي إيساشروف) والذي يتحدث عن معاناة الأطفال على يد جلادي الشرطة الإسرائيلية، والتي يجب أن يندى لها جبين الإنسانية، وليس التاريخ اليهودي وحسب، دون أن تحظى هذه المعاناة بأي مساحة في أي وسيلة من وسائل الإعلام الغربي، ولا حتى العربي؟

ليس الهدف من هذه المقاربة، هو التشكيك فقط في نوايا وأعمال من كشف عن هذه الوثائق، فقد يكون هدفه ربما، كشف أحد أوجه المعاناة الإنسانية في العراق، أو «غوانتانامو»، أو غيرها، ولكن المآل الذي آلت إليه هذه الممارسة والتعاون المريب للجهات الديبلوماسية الأميركية معها، وتبرئة إسرائيل من جرائمها الشنيعة بشكل غريب، وغير مفهوم في خضم عملية النشر والكشف هذه، لهو أمر يدعو إلى الاستغراب ويطرح أكثر من إشارة استفهام. كما أن التركيز على تسليط الأضواء على مواقف مفترضة لبعض الزعماء العرب من إيران، ومقارنة هذه المواقف مع الموقف الإسرائيلي، والكشف أيضاً عن التعاون السري المفترض قيامه بين دول عربية مهمة والولايات المتحدة وإسرائيل، أمور تدعو إلى التساؤل عن هدف هذه العملية برمتها. إذ هل الهدف منها هو الكشف عن الحقيقة عبر نشر الوثائق، أم إظهار واقع جديد إلى العلن، يصبح محطة ينطلق منها الراغبون في الاستمرار بهذا التوجه ولكن دون إحراج بعد اليوم، لأن ما كان يتمّ في السرّ سوف يتم في العلن بعد اليوم. أوليس هذا ما تسعى إليه إسرائيل منذ أعوام، وما يسعى إليه أيضاً بعض المتعاونين مع العدو حتى وهو لايزال يحتل الأراضي العربية، وينكّل بالشعب الفلسطيني، ويهدد بأسلحته الذرية الدول العربية كلها من المغرب إلى البحرين، وصواريخه، وغواصاته، وطائراته قادرة على حمل قنابله الذرية التي تستطيع أن تصل إلى كل العواصم والمدن العربية.

إذا كانت الأمور تقاس بنتائجها، فإن نتائج تسريبات «ويكيليكس»، لم تقدم للعرب، أو الفلسطينيين، أي إضاءة على الجرائم الإسرائيلية التي ترتكب ضدهم، ولم تحرك هذا الصراع إنشاً واحداً باتجاه إحلال العدالة لشعب فلسطين المقهور والمحروم من الحرية، والديموقراطية، وحقوق الإنسان، وهو شعب أصلي يضطهد علناً منذ أكثر من ستة عقود على أرضه، ويعاني ما عانت منه الشعوب الأصلية من تطهير عرقي في القارات الأخرى.

بعد كلّ حجم الإعلام الذي يغفل إغفالاً مطلقاً معاناة شعب فلسطين التي تمرّ على ضمائر الإنسانية دون أن تقلقها أو تسبب حركتها المنتظرة نحو تحقيق العدالة تأتي الآن مئات الآلاف من وثائق ويكيليكس لتغفل إغفالاً مطلقاً جرائم إسرائيل ضد هذا الشعب، لا بل ولتثبت أن رؤية هذا الكيان للمنطقة ومستقبلها هي رؤية يشاطره إياها كثير من زعماء العرب الذين لم يكونوا يتجرؤون لحدّ الآن على الإعلان عن دعمهم لإسرائيل ضد أمتهم، فهل أتت هذه العملية الممسرحة لتنقل الصراع خطوة أخرى ضد الحق العربي، ولصالح إسرائيل التي لاتزال تحتل أرض العرب وتبتلع حقوقهم.





د. بثينة شعبان

المستشارة السياسية والإعلامية في رئاسة الجمهورية العربية السورية
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي