علي الرز / أولاد حارتنا

تصغير
تكبير

|   علي الرز   |


مساء الجمعة 14 اكتوبر 1994... اقترب خضر ابو فرج المحلاوي من الكاتب المبدع نجيب محفوظ وطعنه في رقبته بالسكين محاولا اغتياله، انتقاما من  رواية كتبها عام 1956 (اي قبل نحو 40 عاما) بعنوان «اولاد حارتنا» اعتبر البعض انها تتضمن اشارات ضد العقيدة الدينية. وكانت مفاجأة التحقيق ان المحلاوي لم يقرأ «اولاد حارتنا» بل سمع احد «الدعاة» يدعو على محفوظ بالموت ويحرض «الغيورين على دينهم» (كما ورد في محضر التحقيقات) على الانتصار لعقيدتهم. بمعنى ادق، تم طعن نجيب محفوظ في دينه ووطنيته وقيمه واخلاقياته قبل ان يأتي الشاب ويطعنه في رقبته من دون ان يكلف نفسه عناء قراءة الرواية او التفكير في اسقاطاتها او تكوين قناعة ذاتية على الاقل قبل ان يرتكب جريمته.

قصة محفوظ والمحلاوي لا تنفصل رمزيا عن القصة الدموية الاخيرة التي حصلت في العراق ولا عن قصص الارهاب والانتحار. فأحد «الدعاة» هنا هو «امير المجاهدين» هناك، والكاتب «العدو» هنا هو آلاف الابرياء في الاسواق والساحات والمدارس هناك، والمنفذ هنا هو مئات الانتحاريين هناك.

في التفجيرين الاخيرين في العراق، قيل ان الارهابيين فخخوا امرأتين متخلفتين عقليا... لينكشف التخلف العقلي عن الكثيرين من اولاد حارتنا العرب والمسلمين.

فبعض اولاد الحارة (من المحيط الى الخليج وصولا الى بنغلاديش) هللوا لمبدأ استمرار العمليات التي يسمونها «استشهادية» بغض النظر عن هوية الضحايا التي سقطت، فهذا يعني من وجهة نظرهم ان «شجرة العقيدة» ما زالت مورقة وتتغذى من دماء «الشهداء».

وبعض اولاد الحارة افتى سياسيا بجواز العملية من اجل انهاك المشروع الاميركي حتى ولو لم يسقط فيها اي جريح اميركي. فمن وجهة نظر هؤلاء فان غياب الاستقرار في العراق وانهيار الامن واستعار فتنة مذهبية وطائفية وضرب الحياة الطبيعية... كلها عوامل مثبتة لفشل المشروع الاميركي الذي سيجد نفسه مضطرا للاستعانة بخبرات هؤلاء في الحل والربط والانتصار على التطرف ودعم الاستقرار مقابل اثمان اقليمية لهم، بعدما كان المشروع الاميركي يتوهم ان العراق سيصبح «النموذج الديموقراطي الذي سيتعمم في الشرق الاوسط».

وبعض اولاد الحارة تعامل مع التفجيرين كما يتعامل مع اي حدث عادي بعدما نجح الانتحاريون في ملء جزء من فراغ يومياتنا. لم يجد في الصورة نفورا الا مشهد المتخلفتين عقليا فقال في نفسه: «حرام، هذا لا يجوز»... وكأن اخماد حياة 90 شخصا يجوز.

وبعض اولاد الحارة كانت ردة فعله الاولى: «ومن قال ان تنظيم القاعدة استخدم متخلفتين عقليا؟ الا يمكن ان تكون الدعاية الاميركية تريد تشويه صورته؟»... يا سيدي ممكن، ولكن هل حسن وجود 90 قتيلا واكثر من 300 جريح من صورة «القاعدة»؟ وهل صارت القضية قضية شكل واخراج بدل ان تكون قضية مضمون؟ وهل نسي هؤلاء المشككون عدد العمليات التي اوقف فيها مسلحو «القاعدة» اشخاصا ابرياء وحققوا معهم بحجج مختلفة في مراكز مخفية فيما كان آخرون يفخخون سياراتهم ثم افرجوا عنهم وراقبوهم الى ان وصلوا الى نقطة تفتيش عسكرية عراقية ففجروهم عن بعد؟ وهل نسينا «الانتحاري» الذي دعا الاطفال بمكبر صوت سيارته الى التجمع حولها لانه سيوزع عليهم الحلوى في وسط بغداد فاقترب نحو مئة طفل حصدهم بتفجير، ليبرر لاحقا بعض اولاد حارتنا فعله بانه كان يرمي الى اصطياد جندي اميركي قريب من موقع التفجير؟.

وبعض اولاد الحارة صار تماما مثل من حاول اغتيال محفوظ. فالعدو هو الاميركي او الاسرائيلي، ثم فجأة يصبح عنصر الامن الوطني، ثم يتغير ويشمل الكتاب والمفكرين والمثقفين والسياح، ثم يكون هذا السياسي او ذاك، ثم نقرأ بيانات «جهادية» تتحدث عن العداء لابناء هذه الطائفة او تلك، ففي العراق السني في صحوة الانبار عدو لـ «القاعدة» والشيعي في التنظيمات المختلفة عدو لـ «القاعدة»، ولدى بعض الحركات الشيعية والسنية المتطرفة تصبح المساجد والمزارات مراكز العداء، اما احد امراء الجماعة الاسلامية المقاتلة في الجزائر فافتى بان الجنين في بطن امه احيانا يكون هو العدو.

بعض اولاد حارتنا يقتل ولا يقرأ. يمشي في تظاهرة ولا يفكر. يرتكب الجرائم ولا يندم. ينفذ اوامر الحزب او شعبة الاستخبارات او الخلية الامنية ولا يجادل. ينتحر ولا يتردد. يتعصب ويتحزب ويكره ويسحق ويغتال ولا يرف له جفن، ثم ننشغل في التفكير عن صحة خطف متخلفتين عقليا وتفجيرهما وسط ابرياء وننسى ان الجماعات الارهابية والانظمة القمعية خطفتنا دولا ومجتمعات وافرادا، وان التخلف صار هوية... اولاد حارتنا.

alirooz@hotmail.com  

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي