طهران تدعو «حزب الله» إلى الحرب

محادثات ترامب - نتنياهو: برنامج الصواريخ الإيراني يتصدر المشهد

ترامب متحدثاً خلال مؤتمر صحافي مع نتنياهو في فلوريدا (رويترز)
ترامب متحدثاً خلال مؤتمر صحافي مع نتنياهو في فلوريدا (رويترز)
تصغير
تكبير

تأتي زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للولايات المتحدة ولقاءاته مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب وكبار مسؤولي الإدارة في ظل تباين واضح في الرؤى الإستراتيجية. فبينما يتحدث الجانبان عن حل الأزمات الإقليمية، إلا أنهما يختلفان على نحو حاد حول ماهية «الحل» ونطاقه. وبالتدقيق، ينهار مفهوم الصفقات الكبرى سريعاً. ورغم الجهود المبذولة لتصوير الزيارة على أنها اتفاق شامل قائم على المقايضات - غزة مقابل إيران، ولبنان مقابل سوريا - فإن الواقع يشير إلى ضغوط متداخلة. فكل منطقة تعمل وفقاً لقيودها وإيقاعاتها ودينامياتها الداخلية.

صواريخ إيران

وتبوأت إيران مكانة مركزية في زيارة نتنياهو، باعتبارها البند الرئيسي على جدول الأعمال المتفق عليه. ليس البرنامج النووي الإيراني هو ما سيتم «تدميره فوراً»، كما ادعى ترامب، بل البرنامج الصاروخي، وهو ما يُنذر بقرب جولة جديدة من المواجهة. أما القضايا الأخرى - غزة، لبنان، سوريا، وحتى اليمن - فتبقى مهمة، لكنها تُعامل على أنها ثانوية، أو أبطأ، أو ذات طابع تكتيكي. والثابت أن الخلاف الحقيقي بين نتنياهو وترامب لا يكمن في ضرورة مواجهة إيران، بل في مدى المواجهة المشتركة، وما هي تكلفتها.

من وجهة نظر نتنياهو، لا تتعلق الزيارة بالتنسيق بقدر ما تتعلق بالاحتواء. هدفها الأساسي هو ثني ترامب عن ممارسة ضغوط من أجل تنازلات جوهرية قد تُقيد حرية إسرائيل العسكرية. فإستراتيجية نتنياهو تتمحور حول التأجيل: تأخير الخيارات الحاسمة، والحفاظ على الديناميكيات القائمة، والاكتفاء بالضربات الموضعية عندما يصبح الضغط أمراً لا مفر منه. هذا النمط هو ما طبع سلوكه منذ بداية حرب غزة، وهو ما يُفسر التناقض بين «الإنجازات» المعلنة علناً والخلافات العالقة التي تُترك خلف الأبواب المغلقة.

توتر استراتيجي

يسعى نتنياهو في نهاية المطاف إلى شيء مختلف: حالة توتر إستراتيجي دائم تُبقي إيران تحت السيطرة، وقطاع غزة من دون حل، ولبنان غير مستقر، وسوريا ممزقة، دون الانزلاق إلى حرب أوسع مع إيران لا تستطيع إسرائيل خوضها بمفردها. فإسرائيل تُفضّل تجميد المنطقة إلى أن تسمح الظروف بما تسميه «النصر الحاسم»، سواء في غزة أو لبنان أو ضد إيران نفسها. أقصى ما يمكن لنتنياهو انتزاعه واقعياً هو ضغط مستمر - عقوبات، وعمليات سرية، وعزلة ديبلوماسية - مُغلّف بغطاء الحزم الإستراتيجي. في المقابل، يتوقع ترامب من نتنياهو تقديم بادرات رمزية في أمكنة أخرى، لا سيما في غزة: ليس تسوية، ولا إنهاء للحرب، بل مجرد تحرك كافٍ للحفاظ على مظهر التقدم.

ترامب... صانع صفقات

يسعى ترامب إلى تقديم نفسه كصانع صفقات قادر على إنهاء الحروب، ولو جزئياً أو موقتاً. فتركيزه ينصب على الصورة العامة، والتصريحات، وإدارة الهدوء بدلاً من التوصل إلى حلول. يريد مظهر السيطرة دون تحمل تكاليف الحرب: ضغط يتبعه ضربة سريعة دون تصعيد ودون عواقب، وإدارة للأزمات تتوج بصفقات تُسوّق على أنها انتصارات. ورغم خطابه العدائي، لا يبدو أن ترامب يرغب في مواجهة شاملة مع طهران. بل يبدو أنه يميل إلى تكرار عمليات محدودة، مثل غارات قاذفات «بي-2 سبيريت» الشبحية، المصممة لتحقيق أقل قدر من العواقب وردّ محدود كما يأمل.

في هذا السياق، لم تعد غزة تُعامل كساحة معركة يجب حسمها، بل كمشكلة ينبغي إدارتها. أوقف ترامب الحرب الشاملة، متجنباً بذلك إدانة دولية متزايدة من حلفائه القدامى، لكنه لم يحل النزاع. لم تُصمم ما يُسمى بـ«المرحلة الثانية» من وقف النار أصلاً للنجاح؛ بل كانت مجرد هيكل غامض وغير شفاف، أشبه بخطة دون أن تُطبّق. لا توجد قوة دولية مستعدة لتولي زمام الأمور في القطاع، ولا إطار حوكمة جاد، ولا آلية موثوقة لنزع سلاح «حماس»، ولا مسار إعادة إعمار حقيقي مقبول لدى إسرائيل، التي تنظر إلى إعادة إعمار غزة كتهديد إستراتيجي لا كضرورة إنسانية. إن معارضة إسرائيل لإعادة الإعمار متجذرة في هدف إستراتيجي أوسع: القضاء على غزة ككيان سياسي وكمساحة فلسطينية قابلة للحياة. في القطاع، لا تتوقف النتائج على رغبة واشنطن في الهدوء أو سعي إسرائيل لتحقيق نصر حاسم، بقدر ما تتوقف على قدرة «حماس» على الصمود، وعلى استعداد مصر وقطر للتوصل إلى ترتيبات عملية تشمل الحركة. وإلا، لما استمر الصراع لأكثر من عامين دون حل حاسم. إنهاء الحرب سيجبر نتنياهو على اتخاذ قرارات سياسية لطالما تجنبها لأعوام. إطالة أمدها تخدم مصالحه في شكل أفضل.

الحرب الشاملة

أما بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فإن الحرب الشاملة مع إيران ستؤدي إلى اضطراب الأسواق العالمية. لذا، فإن إيران ليست ورقة مساومة، بل هي المحور الإستراتيجي الذي تدور حوله جميع الحسابات الأخرى. مع ذلك، تعمل إيران على مسارٍ مُنفصل. يتقدم برنامجها النووي وفقاً لجدولها الزمني الخاص، مُتسماً بالغموض والتكتم في الغالب، بينما تستمر قدراتها الصاروخية والمُسيّرة في التطور بثباتٍ وفي شكلٍ مُستقل عن الأحداث في غزة. لن تُقر طهران علناً بأي تقدمٍ نووي حتى تُقرر أنها مُستعدة تماماً، ولديها أنظمة دفاعية كافية وقدرة ردعٍ لضرب إسرائيل والقواعد الأميركية في حال تعرضها للهجوم. فأي ضربة استباقية إسرائيلية - أميركية، إن حدثت، ستكون مدفوعة بتقييماتٍ استخباراتية للقدرات الإيرانية وإدراك التهديد، وليس بتنازلاتٍ سياسية تُقدم عبر جبهاتٍ أخرى.

وفي لبنان، مازال التوازن الهش قائماً. فقد فشلت المحاولات المتكررة لإيجاد حلول حاسمة (سواء أكانت عسكرية أم سياسية أم اقتصادية) على قاعدة تحقيق الأهداف المشتركة لإسرائيل والولايات المتحدة. وقد أبدت إسرائيل تفضيلاً واضحاً للضغط الجوي، وتدهور البنية التحتية، والتصعيد المدروس، بدلاً من المواجهة البرية مع «حزب الله»، الذي ستفرض خبرته القتالية ووجوده الحضري تكاليف باهظة. ولذلك، فإن هذا التوازن هش ولكنه مقصود: إذ يُفضّل جبهة قتالية مُحتوية على جبهة حاسمة عالية الكلفة.

وخلال حرب يونيو مع إيران، تم اختبار هذا التوازن. فقد طلبت طهران من «حزب الله» الانضمام إلى المواجهة لأسباب عدة: تقسيم الجبهات، وإعطاء انطباع بامتداد التداعيات الإقليمية، وإجهاد أنظمة اعتراض الصواريخ الإسرائيلية، وفرض قاعدة اشتباك جديدة لا تسمح لإسرائيل بالعمل بحرية فوق المجال الجوي اللبناني أو مواصلة الضربات اليومية ضد عناصر «حزب الله» ومستودعاته. وقد رفض الحزب، بحجة أنه لم يكن مستعداً بعد، من حيث القيادة والسيطرة، لخوض حرب طويلة الأمد أو إستيعاب تبعاتها المجتمعية. اليوم، يُقيّم «حزب الله» نفسه بأنه في مستوى أعلى من الجاهزية العسكرية، ويُدرك في شكل متزايد أن الحرب وحدها هي الكفيلة بفرض قواعد اشتباك جديدة على إسرائيل. وإلا، ففي ظل حكم نتنياهو أو أي رئيس وزراء إسرائيلي مُستقبلي، من غير المرجح أن ينتهي النمط الحالي للاغتيالات المُستهدفة. ونتيجةً لذلك، لم يعد في الإمكان افتراض حياد «حزب الله» في حال نشوب حرب إسرائيلية - أميركية على إيران، ولم يعد في الإمكان استبعاد كلي لاحتمال نشوب صراع إقليمي أوسع.

إدارة الشرع

أما في سوريا، قد تظهر تفاهمات ضمنية تسمح لواشنطن بمواصلة دعم إدارة أحمد الشرع، بينما تفضل إسرائيل حالة عدم الاستقرار التي تفتعلها. بالنسبة إلى إسرائيل، تظل دمشق ذات فائدة تحديداً لأنها مازالت غير مستقرة. يستفيد نتنياهو من التشرذم وعدم الاستقرار المُطوّل، بينما تُواصل الولايات المتحدة التحوّط في موقفها من خلال التسامح مع نظام انتقالي يمنع ترسيخ أي طرف مُعادي. لا يسعى أي طرف من الأطراف إلى المُشاركة بنشاط للتوصل إلى حل؛ بل إنهم يُديرون التدهور.

واشنطن وبغداد

في غضون ذلك، يُشكّل العراق أكثر المناطق مقاومةً لأي شكل من أشكال التدخل الإقليمي، وذلك تحديداً لأن الأمن والسياسة فيه متداخلان في شكل لا ينفصل. وتضغط واشنطن على بغداد لنزع سلاح الفصائل المسلحة في بلاد ما بين النهرين أو تحييدها. بما في ذلك الحشد الشعبي، بهدف صريح هو منع العراق من أن يكون قاعدة خلفية أو ممر عبور قد يعرقل الاستراتيجيات الأميركية - الإسرائيلية تجاه إيران ولبنان. من وجهة نظر أمنية، يعكس هذا رغبة في إحكام السيطرة على ساحة المعركة وفرض رقابة رأسية على التصعيد. أما سياسياً، فيصطدم هذا الأمر مباشرةً بالسيادة العراقية وتوازن القوى الداخلي. فالحشد الشعبي ليس مجرد ميليشيا هامشية، بل قوة مؤسسية راسخة في بنية الأمن القومي، مدعومة بتشريعات وكتل برلمانية وقواعد شعبية واسعة تنظر إليه كضامن ضد عودة الجهاديين والإكراه الأجنبي. إن أي محاولة لتفكيكه أو تهميشه بالقوة لن تؤثر فقط على ضبط الوضع الأمني العراقي، بل ستزعزع استقرار النظام الحاكم نفسه، وتُزعزع العلاقات المدنية العسكرية، وتُهدد بإثارة انقسام مسلح داخل الدولة. بهذا المعنى، لا يُمثّل العراق امتداداً يُمكن السيطرة عليه لجبهات لبنان وسوريا وإيران، بل نقطة اشتعال محتملة قد تنقلب فيها جهود فرض الانضباط الإقليمي، مُحوّلةً العراق من منطقة عازلة إلى ساحة صراع نشطة لا تستطيع واشنطن ولا تل أبيب السيطرة عليها في شكلٍ مؤكد.

زيارة محورية

وُصفت نتائج زيارة نتنياهو للولايات المتحدة بأنها «محورية» بينما لم تُحدث أي تحوّل. إنها تُجسّد نظاماً قائماً على التأجيل. إيران مُهدّدة ولكن لا تُواجَه. غزة تُناقَش ولكن لا يُحَلّ الوضع فيها. لبنان يُمارَس عليه الضغط ولكن لا يُدخَل. سوريا تُراقَب ولكن لا يُستقرّ الوضع فيها. فزيارة نتنياهو تجسد توازناً دقيقاً بين التصعيد والتأجيل والتسوية الجزئية. لم يعد السؤال المحوري هو ما إذا كانت هذه الإستراتيجية ناجحة، بل إلى متى يمكن استدامتها وإلى متى يمكن تأجيل الخيارات التي لا يرغبان (ترامب ونتنياهو) في اتخاذها. إن عدم الاستقرار المُدار له تكاليف متراكمة.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي