التفوق العسكري يُستمد من تكامل البيانات... والطائرات المسيّرة حلت محل الدوريات المأهولة

من أوكرانيا إلى لبنان وغزة وإيران... اقتصاد الدفاع الجديد خلاصة مبكرة للحروب الراهنة

مقاتلة أميركية من انتاج «نورثروب غرومان»
مقاتلة أميركية من انتاج «نورثروب غرومان»
تصغير
تكبير

لعقود طويلة، احتلت شركات المقاولات الدفاعية مكانةً فريدةً في الأسواق المالية. لم تكن هذه الشركات محركات للابتكار أو النمو، بل كانت مصدراً للاستقرار المالي: عقود حكومية طويلة الأجل، هوامش ربح ثابتة، وأرباح موزعة مضمونة. كانت أسهم شركات الدفاع بمثابة ملاذاً آمناً عسكرياً ومالياً. هذا النموذج آخذٌ في التلاشي الآن.

ففي الأسواق العالمية، تجذب فئة جديدة من شركات الدفاع رؤوس الأموال ليس بسبب الاستقرار، بل بسبب التقلبات، والتحولات التكنولوجية الجذرية، وإمكانات الربح السريع. إذ شهدت شركات مثل «كراتوس» للدفاع والحلول الأمنية، و«بالانتير تكنولوجيز»، و«بلانيت لابز»، و«إيروفايرمونت»، و«بلاك سكاي»، ارتفاعاً كبيراً في قيمتها السوقية، حيث تضاعفت في بعض الحالات خلال عام واحد. تشبه هذه الشركات شركات التكنولوجيا أكثر من شركات تصنيع الأسلحة التقليدية، فهي متخصصة في تحليلات البيانات، والأنظمة غير المأهولة، واستخبارات الأقمار الاصطناعية، والبرمجيات التي تحوّل المعلومات إلى ميزة في ساحة المعركة. ويعكس هذا التطور تحولاً أعمق في كيفية خوض الحروب وكيفية تخصيص ميزانيات الدفاع. فمع تسارع وتيرة الحروب، وانتشارها، واعتمادها المتزايد على البيانات، تتدفق رؤوس الأموال نحو الشركات القادرة على استثمار هذا التغيير.

من المنصات إلى الأنظمة

كان النموذج الاصطناعي الدفاعي التقليدي يتمحور حول المنصات: الطائرات المقاتلة، الدبابات، السفن الحربية وأنظمة الصواريخ. وقد هيمنت شركات مثل «لوكهيد مارتن»، و«آر تي إكس»، و«نورثروب غرومان» على عمليات الشراء من خلال تصميم ودعم آلات معقدة على مدى عقود طويلة.

لكن الحرب الحديثة لم تعد تُنظَّم في شكل أساسي حول المنصات، بل أصبحت قائمة على الأنظمة، مترابطة شبكياً، وقابلة للتطوير والتحديث. وأصبحت الطائرات المسيّرة الرخيصة الثمن قابلة للاستهلاك. وأصبحت تحديثات البرامج، ودمج البيانات الحسية، وخوارزميات الاستهداف لا تقل أهمية عن الدروع أو أنظمة الدفع. إذ يستمد التفوق العسكري في شكل متزايد من تكامل البيانات والحرب الإلكترونية والتكيف السريع. وقد جعلت الحرب في أوكرانيا هذا الأمر جلياً لا لبس فيه. فينشر كلا الجانبين مئات الطائرات المسيّرة يومياً، إلى جانب الزوارق الانتحارية البحرية وأنظمة الطائرات المسيّرة التجريبية، ما يفرض منطق إنتاج قائم على أصول منخفضة التكلفة وسريعة الاستبدال. هذا ليس حرب الطائرات المسيّرة كما في أفغانستان، بل هو تشبّع في ساحة معركة متنازع عليها، حيث يعتمد البقاء على الحجم والتكرار والتطوير المستمر.

وتؤكد الحملات الإسرائيلية في غزة ولبنان المنطق نفسه. فقد اعتمدت القوات الإسرائيلية في شكل كبير على الاستخبارات المدعومة بالذكاء الاصطناعي، والاستهداف القائم على أجهزة الاستشعار، والمنصات غير المأهولة لتقليص دورات اتخاذ القرار وتقليل انكشاف القوات. وتحلّ الطائرات المسيّرة في شكل متزايد محل الدوريات المأهولة والاستطلاع وأدوار الدعم القريب، بينما يعمل تكامل البيانات على مزامنة الضربات عبر مختلف المجالات.

وفي جنوب لبنان، أثبت هذا النهج أهميته البالغة. فبدلاً من نشر تشكيلات برية كبيرة ضد «حزب الله» في مناطق مدنية مكتظة، استخدمت إسرائيل حرب الطائرات المسيّرة المستمرة لتشكيل ساحة المعركة تدريجياً، واستنزاف مواقع العدو، والحد من الخسائر. في مواجهة خصم متغلغل في البيئات المدنية وقادر على إلحاق خسائر فادحة، وفرت الأنظمة غير المأهولة وسيلةً لممارسة ضغط مستمر مع الحد من التكاليف السياسية والبشرية.

وقد أخذت وزارات الدفاع هذا الأمر في الاعتبار. وتتحول أولويات التوريد من المعدات العسكرية المرموقة إلى قدرات أرخص وأسرع نشراً وقابلة للتوسع بكميات كبيرة وأقل اعتماداً على القوى العاملة. هذا التوجه الجديد هيكلي وليس دورياً.

دروس مستفادة من المواجهة الإسرائيلية - الأميركية مع إيران

بلورت المواجهة القصيرة ولكن الشديدة التي إستمرت 12 يوماً بين إسرائيل والولايات المتحدة وإيران هذه التوجهات. لم يكن الصراع أشبه بحملة مناورة تقليدية أو غزو إقليمي، بل كان صراعاً مكثفاً متعدد المجالات هيمنت عليه تبادلات الصواريخ والدفاع الجوي والصاروخي والعمليات السيبرانية والأنظمة غير المأهولة. لم يكن المهم هو التحرك في ساحة المعركة، بل القدرة على الحفاظ على الضغط مع إدارة التصعيد.

وكان من أهم الدروس المستفادة قدرة إيران على الصمود في مواجهة خصمين متفوقين تكنولوجياً. على الرغم من افتقار إيران إلى قوة جوية حديثة ومواجهتها تفوقاً جوياً إسرائيلياً شبه كامل، إلا أنها واصلت إطلاق وابل من الصواريخ حتى اليوم الأخير. وقد أظهرت الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز، إلى جانب الطائرات المسيّرة وأساليب الإطلاق المتفرقة، كيف يمكن للمنع والتكرار والقدرة على التحمل أن تُعادل مزايا القوة الجوية التقليدية.

وكشف الصراع عن حقيقة جوهرية في الحروب المعاصرة: لم يعد التفوق الجوي يضمن السيطرة الإستراتيجية. لم تُترجم الهيمنة التكنولوجية الإسرائيلية إلى قمع حاسم لقدرات إيران الصاروخية أو إلى إنهاء سريع للأعمال العدائية. بل على العكس، ساهم الضغط الصاروخي المستمر في قرار إسرائيل بالسعي إلى وقف النار. وقد أثبتت إستراتيجية إيران القائمة على التحمل كفايتها لفرض قيود سياسية وإستراتيجية على خصم أكثر تقدماً.

كان من أبرز ما كشف عنه هذا الوضع هو صمود إيران في وجه الاضطرابات الداخلية، بما في ذلك أعمال التخريب والاختراقات الأمنية خلال الحرب. فبدلاً من انهيار هياكل القيادة، أبرزت هذه الصدمات متانة بنية عسكرية لا مركزية مصممة للعمل تحت وطأة الهجمات المستمرة.

بالنسبة إلى إسرائيل والولايات المتحدة، عززت المواجهة أولوية الدفاع الصاروخي متعدد الطبقات، والإنذار المبكر، ودمج المعلومات الاستخباراتية المدعوم بالذكاء الاصطناعي. وكان الاعتراض والتخفيف، بدلاً من تحقيق اختراقات هجومية حاسمة، هما ما حددا النجاح. وقد تم تجنب التصعيد البري عمداً، ما يعكس محدودية الجدوى الإستراتيجية لنماذج الغزو التقليدية.

يتبع السوق مسار المعركة

استوعبت الأسواق المالية هذه الدروس بسرعة ملحوظة. فقد تفوقت أسهم شركات الدفاع في شكل كبير على المؤشرات الأوسع نطاقاً مع إعادة الحكومات تسليح نفسها بعد عقود من نقص الاستثمار. وشهدت شركات أوروبية مثل «راينميتال» و«ساب» و«ليوناردو» ارتفاعاً ملحوظاً، بينما ما زال الإنفاق الدفاعي الأميركي مرتفعاً في شكل هيكلي.

استوعبت الأسواق المالية هذه الدروس بسرعة فائقة. مع ذلك، تحققت المكاسب الأكبر للشركات التي كانت تُعتبر هامشية في السابق: شركات تصنيع الطائرات المسيّرة، ومزودي خدمات المعلومات الجغرافية المكانية، وشركات التحليلات. لم يعد المستثمرون يشترون أسهم الدفاع كتحوط ضد عدم الاستقرار، بل كفرصة للاستثمار في النمو التكنولوجي طويل الأجل المدفوع بتغير طبيعة الحرب.

يعكس هذا اعتقاداً بأن الانفاق الدفاعي دخل مرحلة جديدة. فقد أقنع تآكل أنظمة الحد من التسلح، وعودة الصراعات الدولية المستمرة، وإنهيار مكاسب السلام التي أعقبت الحرب الباردة، الحكومات بأن الميزانيات العسكرية سترتفع وستبقى مرتفعة. في الولايات المتحدة، تُفضّل جداول الشراء المضغوطة والدعم السياسي للأنظمة غير المأهولة الشركات الأصغر حجماً والأكثر مرونة.

من الناحية المالية، يُغيّر هذا طبيعة الاستثمار في الدفاع. فتعتمد هوامش الربح في شكل متزايد على البرمجيات وخدمات البيانات، وتعتمد التقييمات على التبني المستقبلي بدلاً من المنصات المُثبّتة. ويُشبه قطاع الدفاع في شكل متزايد قطاعاً تكنولوجياً تتشكل بفعل دورات الابتكار والطلب الجيو- سياسي.

المخاطر والتقييم والجيو - سياسة

يُصاحب هذا التصنيف الجديد مخاطر. تُتداول العديد من أسهم شركات الدفاع الرائجة حديثاً بتقييمات لم تكن تُتصور سابقاً في هذا القطاع. يُبدي المستثمرون استعداداً لتجاهل المقاييس التقليدية مقابل الاستفادة من النمو المتوقع على المدى الطويل، مُفترضين أن الحكومات ستواصل إعادة توجيه ميزانياتها نحو الأنظمة ذاتية التشغيل، البيانات والبرمجيات.

مع ذلك، فإن التقلبات حقيقية. تواجه الشركات الصغيرة مخاطر التنفيذ، والتدقيق التنظيمي، وتأخيرات العقود. وقد عانت العديد منها بالفعل من تصحيحات حادة في أعقاب توجيهات حذرة. وعلى عكس شركات المقاولات التقليدية، غالباً ما تفتقر هذه الشركات إلى مصادر دخل متنوعة لتخفيف آثار التراجع. ولكن، ما يُميز الدورة الحالية هو سلوك المستثمرين. تجذب أسهم شركات الدفاع في شكل متزايد رؤوس الأموال المضاربة نفسها التي تُغذي الحماس للذكاء الاصطناعي والفضاء. أصبح تقبّل المخاطر أعلى، وانضباط التقييم أقل صرامة، والآفاق الزمنية أقصر.

وتُضخّم الجغرافيا السياسية هذه الديناميكيات. فقد أجبر عدم اليقين داخل التحالفات الغربية والشكوك حول الضمانات الأميركية طويلة الأجل الحلفاء على إعادة التسلح. ومع ذلك، ما زال العمق التكنولوجي والنطاق الواسع يتركزان في عدد قليل من الدول، ولا سيما الولايات المتحدة والصين، ما يعزز تركز رأس المال حتى مع تنوع سلاسل التوريد.

من الدفاع إلى النمو

يكمن التحول الأعمق في كيفية إعادة تصور الدفاع في ظل النظام الرأسمالي. فبعد أن كانت شركات الدفاع تُقيّم سابقاً لاستقرارها، أصبحت تُقيّم الآن كمحركات للابتكار والنمو. وتُشكل السرعة وقابلية التوسع ومنطق البرمجيات في شكل متزايد تصميم الأسلحة، بينما يستمر التداخل بين التكنولوجيا المدنية والعسكرية في التلاشي.

بالنسبة إلى الحكومات، يُحقق تسريع عمليات الشراء مزايا ميدانية، ولكنه يُقلل من الرقابة ويزيد الاعتماد على الشركات الخاصة التي تتأثر حوافزها بالأسواق بقدر ما تتأثر بالإستراتيجية. أما بالنسبة إلى المستثمرين، فالنتيجة أوضح: لم يعد الدفاع مجرد ملاذ في فترات الركود، بل أصبح رهاناً على طبيعة الحرب نفسها في المستقبل.

وكما تُظهر أوكرانيا وغزة ولبنان وإيران، فإن هذا المستقبل لا يُبنى على منصات منفردة، بل على الشبكات والبيانات والاستقلالية والنطاق الواسع، وقد تكيف السوق وفقاً لذلك.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي