الشركة وُلدت قبل 132 عاماً لتزويد المزارعين الأميركيين بالسلع منخفضة السعر عبر البريد

«سيرز»... من إمبراطور التجزئة إلى رماد الإفلاس

أحد متاجر سيرز عند انطلاقها
أحد متاجر سيرز عند انطلاقها
تصغير
تكبير

- «كتاب الأحلام» شكّل ثورة في تسويق الملابس والأثاث والمجوهرات وصولاً للمنازل الجاهزة
- الشركة لم تلتقط إشارة الثورة الرقمية بداية التسعينات
- هيمنت على 1 % من الناتج الإجمالي الأميركي بإيرادات 17 مليار دولار سنوياً
- شيّدت «سيرز تاور» أطول مبنى في العالم آنذاك
- بحلول 2000 تراجعت مبيعات «سيرز» 40 % وفقدت مكانتها

قبل أكثر من 132 عاماً، وُلدت شركة «سيرز» من فكرة بسيطة، تزود المزارعين الأميركيين بسلع بأسعار منخفضة عبر البريد.

لم يكن مؤسسها ريتشارد سيرز، يدرك أن مشروعه الصغير سيصبح يوماً ما أيقونة الاستهلاك الأميركي، وإحدى أضخم شركات التجزئة في العالم. لكن كما ارتقت «سيرز» لتتربع على قمة الاقتصاد الأميركي، هوت لاحقاً إلى قاع الإفلاس في واحدة من أكثر القصص درامية في تاريخ الأعمال.

تأسست «Sears, Roebuck and Co.» عام 1893 في مينيسوتا، كمتجر بريدي يبيع الساعات والأدوات بأسعار تنافسية. وخلال العقود التالية، توسعت الشركة بسرعة بفضل كتالوغها الشهير الذي صار يُعرف بـ«كتاب الأحلام»، الذي كان يصل إلى ملايين المنازل سنوياً، مثّل ثورة في تسويق السلع للأسر الأميركية، إذ عرض منتجات غير مسبوقة تتراوح بين الملابس والأثاث والمجوهرات، وصولاً إلى المنازل الجاهزة التي يمكن طلبها بالبريد.

وبحلول ثلاثينات القرن العشرين، افتتحت «سيرز» أول متاجرها الكبرى، لتدخل مرحلة جديدة من التوسع وتصبح الوجهة الأولى للتسوق في الولايات المتحدة. وفي السبعينات، بلغت ذروة مجدها: كانت تهيمن على نحو 1 % من الناتج المحلي الإجمالي الأميركي، بإيرادات بلغت 17 مليار دولار سنوياً، وتضم أكثر من 500 ألف موظف. كما شيّدت «سيرز تاور» في شيكاغو، الذي كان أطول مبنى في العالم آنذاك، رمزاً ماديّاً لسطوتها وازدهارها.

بداية التراجع

لكن خلف هذا المجد، كانت بوادر التراجع تتشكل. ففي الثمانينات، ظهر منافسون جدد بأساليب أكثر كفاءة ومرونة، أبرزهم «والمارت»، الذي اعتمد على نموذج أسعار منخفضة وسلسلة إمداد دقيقة. في المقابل، تمسكت «سيرز» بنموذجها التقليدي الذي جمع بين فئات منتجات كثيرة دون وضوح في الهوية أو تميّز في الخدمة.

الإدارة آنذاك حاولت تنويع الإيرادات عبر دخول قطاعات بعيدة عن جوهر عملها مثل التأمين والخدمات المالية والعقارات. ورغم تحقيق أرباح موقتة، إلا أن هذه الخطوات عمّقت تشتت الشركة وأغرقتها في الديون. فكانت «سيرز» تبتعد تدريجياً عن عماد نجاحها المتمثل بفهم المستهلك وتقديم ما يحتاجه بكفاءة.

الفرصة الضائعة

ومع دخول التسعينات، كانت ملامح الثورة الرقمية تتضح، لكن «سيرز» لم تلتقط الإشارة. وبينما كانت «أمازون» تبني قواعد التجارة الإلكترونية، ظلت «سيرز» تعتمد على نموذج المتاجر التقليدية الضخمة دون استثمار حقيقي في التحول الرقمي. لم يكن لديها موقع إلكتروني فعّال أو استراتيجية واضحة للتجارة عبر الإنترنت.

وتزامن ذلك مع ضعف إدارة المخزون وتراجع جودة تجربة التسوق. امتلأت المتاجر ببضائع قديمة وغير جذابة، وبدأ العملاء يتحولون نحو منافسين أكثر مرونة مثل «تارغت» و«والمارت».

وبحلول 2000، تراجعت مبيعات سيرز 40 %، مقارنة بالعقد السابق، وفقدت مكانتها كأكبر سلسلة تجزئة في البلاد.

إنقاذ أم انتحار؟

وفي محاولة يائسة لإعادة الهيبة، أعلنت «سيرز» عام 2005 اندماجها مع «كمارت» لتشكيل شركة «سيرز هولدينغز» بصفقة بلغت قيمتها نحو 11 مليار دولار. لكن الصفقة لم تحقق ما وُعد به. فبدلاً من خلق كيان أكثر قوة، جمعت بين شركتين تعانيان من المشكلات نفسها المتمثلة بمتاجر قديمة، ديون ضخمة، وإستراتيجية غامضة.

ولم تنجح الشركة الجديدة في إعادة جذب العملاء أو مجاراة المنافسة الإلكترونية المتنامية. ومع تزايد الديون، لجأت «سيرز» إلى بيع أصولها الأكثر قيمة، بما في ذلك علاماتها التجارية الشهيرة مثل «كرافتسمان» و«كينمور»، لكنها بذلك فقدت ما تبقى من هويتها.

إعلان الإفلاس

وفي أكتوبر 2018، وبعد 125 عاماً من تاريخها، أعلنت «سيرز هولدينغز» إفلاسها رسمياً، لتسدل الستار على واحدة من أطول قصص النجاح في عالم الأعمال الأميركي. حيث أغلقت الشركة آلاف المتاجر، وفقد عشرات الآلاف وظائفهم، فيما بيعت بعض الأصول لشركة جديدة تحمل اسم «إسبرنس» التي تدير اليوم عدداً محدوداً من الفروع تحت اسم «سيرز وكمارت»، في مشهد أقرب إلى الرمزية منه إلى النشاط التجاري الحقيقي.

أسباب الانهيار

فيما تعددت العوامل التي قادت إلى انهيار «سيرز»، لكن يمكن تلخيصها في 3 نقاط محورية:

1 - غياب الرؤية الإستراتيجية: فالشركة لم تحدد بوضوح ما الذي تمثله للمستهلك في عصر تتغير فيه أنماط التسوق بسرعة.

2 - ضعف التكيف الرقمي: تجاهل الثورة الإلكترونية جعلها تفقد جيلاً كاملاً من الزبائن لصالح شركات الإنترنت.

3 - سوء الإدارة المالية: التوسّع غير المدروس في مجالات بعيدة عن نشاطها الأساسي واستنزاف الأصول الثمينة أديا إلى تآكل القيمة الحقيقية للشركة.

إرث ثقيل ودروس باقية

رغم سقوطها، لا تزال «سيرز» تحظى بمكانة خاصة في الذاكرة الأميركية. حيث كانت أول من جعل التسوق تجربة منزلية عبر «الكتالوغات»، وأول من وفّر منتجات جاهزة التركيب للمنازل، كما شكّلت نموذجاً مبكراً لفكرة العلامة التجارية الشاملة.

لكن إرثها الأكبر ربما يكمن في الدرس القاسي الذي تركته وراءها: أن النجاح التاريخي لا يحمي من الفشل، وأن التمسك بالنماذج القديمة في عالم سريع التغير هو أقصر طريق نحو الزوال.

فمن متجر صغير في مينيسوتا إلى أطول برج في العالم، ثم إلى إعلان الإفلاس، تمثل قصة «سيرز» اختصاراً لمسيرة الاقتصاد الأميركي نفسه: صعود، ازدهار، ثم تحوّل مؤلم نحو عصر جديد تقوده التكنولوجيا.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي