الدبلوماسية بين رعاية الخبرة وتهميشها

تصغير
تكبير

في عالم مضطرب تتغير ملامحه بسرعة، تُقاس قوة الدول أحياناً بما تملكه من جيش أو موارد، لكن كثيراً ما يُغفل أن الدبلوماسية هي السلاح الأكثر نعومة، والأكثر دواماً. فهي بوابة النفوذ، وجسر العبور نحو التوازن، وصمام الأمان أمام الانزلاق في أتون أزمات غير محسوبة.

الدول التي تعي هذه الحقيقة تضع دبلوماسيتها في موقع القلب من سياساتها العامة. فهي تختار ممثليها بعناية، وتستثمر في خبراتهم، وتمنحهم مساحة لصياغة المواقف والتكتيكات. هؤلاء يقاسون بما يملكون من معرفة باللغات، والثقافات، وخبرة بالتفاوض، وفهم للتوازنات الدولية لا بأي اعتبارات أخرى والنتيجة واضحة: مكانة راسخة، تأثير حاضر، وسمعة تجعل صوتها مسموعاً ولو كان حجمها صغيراً.

في المقابل من يجعل الدبلوماسية مجالاً للمجاملات، أو لتوزيع المكافآت تكون النتيجة ضعف الأدوات، وتراجع الحضور والغياب عن الموائد التي تُصاغ فيها القرارات.

التاريخ القريب حافل بأمثلة لدول صغيرة، لكن بدبلوماسية رشيدة جعلت من نفسها وسيطاً مقبولاً، أو مركزاً إقليمياً، أو صوتاً مسموعاً في قضايا عالمية. الدول التي أدركت هذه الحقيقة جعلت من الدبلوماسية أحد أعمدة قوتها الناعمة. سنغافورة، مثلاً، دولة صغيرة بلا موارد طبيعية تُذكر، لكنها استثمرت في دبلوماسية نشطة وخبرات بشرية عالية، فأصبحت مركزاً مالياً وتجارياً عالمياً.

وكذلك النروج، التي وإن لم تكن دولة كبرى، إلا أنها نسجت لنفسها دور الوسيط الموثوق في نزاعات عالمية كبرى، بفضل كوادر دبلوماسية مدربة وواعية بأهمية الحياد البنّاء. أما سويسرا، فقد حوّلت حيادها التاريخي إلى رصيد دبلوماسي جعل من جنيف عاصمة لاتخاذ قرارات كبرى، وموطناً لمؤسسات دولية لا يُستهان بوزنها... وثمة دول نجحت في قلب المعادلة رغم ماضيها الصعب. رواندا مثال بارز: بعد مآسي التسعينيات، أعادت بناء صورتها الدولية بدبلوماسية فاعلة ومبادرات مدروسة، فباتت نموذجاً أفريقياً في جذب الاستثمارات وبناء الشراكات.

إن الدول التي تستثمر في كوادرها الدبلوماسية، وتضع خارطة طريق واضحة لعلاقاتها الخارجية، هي التي تحمي نفسها من التهميش وتستطيع المناورة وسط عواصف الجغرافيا والسياسة.

فالدبلوماسية ليست فناً للحديث فقط، بل فناً للبقاء. هي الفرق بين أمة تُسمع كلمتها ولو بصوت خافت، وأخرى يعلو ضجيجها لكنها لا تجد من يُصغي إليها.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي