إنشاء صندوق سيادي للابتكار ومنطقة حرة للتقنية أحد مقومات الانطلاقة

بالورقة والقلم... هذا ما لدى الكويت لتتحول رائداً تكنولوجيا

تصغير
تكبير

- رؤية الكويت 2035 خارطة طريق نحو اقتصاد معرفي متطور
- مقومات تقنية عالية للاستثمار في البنية التحتية الرقمية محلياً
- أرقام ومؤشرات الكويت على خريطة الابتكار والتكنولوجيا... واعدة
- التحول التقني يبدأ بتعزيز التعليم الرقمي والمهارات المستقبلية

منذ عقود، كانت سنغافورة عبارة عن جزيرة صغيرة تفتقر إلى الموارد الطبيعية، وكانت تُعرف في الأساس كمركز تجاري وميناء قبل أن تتمكن من بناء اقتصاد قوي ومتين جاذب للابتكار والاستثمار. وبالمثل، قادت الإمارات تحولاً من مركز إقليمي يعتمد بشكل رئيسي على النفط إلى بناء اقتصاد معرفي وبنية تحتية رقمية متطورة.

ففي سنغافورة، تم التركيز على التعليم الرقمي والحكومة الإلكترونية، محققة نمواً تقنياً سنوياً تجاوز 15 في المئة، أما الإمارات، فوضعت نصب عينيها هدف الريادة في مجالات الذكاء الاصطناعي، وأطلقت شراكات عالمية كبرى مع شركات مثل «نيفيديا» لإنشاء مختبرات متقدمة للروبوتات والذكاء الاصطناعي، فهل يمكن أن تكون الكويت أحد نماذج القصص التنموية القوية، التي حوّلت مناطق محدودة الموارد إلى مراكز تكنولوجية عالمية؟

مقارنة الانطلاقة

عند مقاربة الانطلاقة والرؤية والقدرات الحقيقية، يمكن الإجابة عن السؤال السابق بنعم. ففي إطار رؤية الكويت 2035، التي تهدف إلى تنويع الاقتصاد بعيداً عن النفط، تتجه الأنظار الآن إلى إمكانات البلاد الهائلة في التحول إلى مركز إقليمي للتكنولوجيا، خصوصاً بعد الاتفاقية الإستراتيجية التي وقعتها الحكومة مع «غوغل كلاود»، ذات المدة الزمنية الطويلة، والتي تعمل بمقتضاها الشركة العالمية على مساعدة الحكومة ممثلة بجهاتها المختلفة، على التحول الرقمي وأتمتة أنظمتها وإجراءاتها.

فحسب دراسة «غوغل»، ستعمل الاتفاقية، وبطرق غير مباشرة، على إيجاد موارد مالية إضافية للدولة، عبر إيجاد أرضية تكنولوجية مناسبة مغرية، لجلب استثمارات أجنبية، فضلاً عن إنشاء مراكز بيانات حديثة لخدمات الحوسبة السحابية محلياً.

مقومات قوية

وبخلاف موقعها الجغرافي الإستراتيجي، تمتلك الكويت مقومات قوية، تتيح لها السير على خطى سنغافورة والإمارات، لتصبح قوة رائدة في المنطقة، فبالورقة والقلم تتمتع الكويت بمتانة الأوضاع المالية المحلية، والميزان الخارجي القوي بشكل استثنائي، كما أكدت وكالة التصنيف العالمي «فيتش» أخيراً، في تقريرها الذي ثبتت خلاله التصنيف السيادي للبلاد «-AA». وعلى صعيد معايير الحوكمة، حصلت الكويت على درجة ملائمة في ما يتعلّق بمعايير الحوكمة والمسؤولية الاجتماعية والبيئية، فيما حصلت على الدرجة «5 بلس»، لكل من الاستقرار السياسي والحقوق وسيادة القانون والجودة المؤسسية والتنظيمية ومكافحة الفساد، وجميعها معطيات قوة للانطلاقة تنموياً.

كما تمتلك الكويت واحداً من أضخم الأصول السيادية عالمياً، ما يوفر سيولة غير محدودة للاستثمارات التقنية النوعية. فرقمياً ارتفع حجم الأصول التي تديرها الهيئة العامة للاستثمار من 846 مليار دولار في يوليو 2024 إلى نحو 1.03 تريليون في يوليو 2025، وفقاً لتصنيفات معهد صناديق الثروة السيادية.

ترسيخ المكانة

وانسجاماً مع ما سبق، يمكن للكويت أن تستمر في بناء أساس متين لترسيخ مكانتها كقوة تكنولوجية، لتكون استثماراتها في البنية التحتية والمشاريع الكبرى، التي تعمل عليها أو التي تستهدفها، نقطة الانطلاق لـ «كويت التكنولوجيا»، لكن السؤال يظل قائماً: ما مقومات الانطلاقة التنموية التي تؤهل الكويت إلى الانضمام إلى قائمة رواد التنمية تكنولوجياً؟

عززت الكويت موقعها من خلال الاستثمارات في البنية التحتية الرقمية العالمية، إذ تم الإعلان في يونيو 2025 عن انضمام الهيئة العامة للاستثمار إلى «شراكة بنية تحتية الذكاء الاصطناعي (AIP)»، بالتعاون مع جهات عالمية ضخمة، مثل «مايكروسوفت» و«بلاك روك» و«MGX» التابعة لأبوظبي.

ويهدف هذا التحالف الضخم، إلى تمويل مشاريع بقيمة 30 مليار دولار مبدئياً، مع إمكانية الوصول إلى 100 مليار، شاملة الديون، لبناء مراكز بيانات متقدمة للذكاء الاصطناعي عالمياً، حيث يضع هذا الاستثمار الكويت مباشرة في قلب الاقتصاد العالمي للذكاء الاصطناعي، ويعزز قدرتها على استضافة شركات تكنولوجية عملاقة مثل «غوغل» و«إنفيديا» التي انضمت أخيراً للشراكة.

وعلى مدار الأشهر الـ12 الماضية، رسمت تقارير ومؤشرات دولية صورة دقيقة لمكانة الكويت الراهنة على خريطة التكنولوجيا والابتكار. فعلى صعيد «مؤشر الابتكار العالمي»، جاءت الكويت في المرتبة 71 بين 133 اقتصاداً حول العالم، والمرتبة العاشرة إقليمياً بين 18 اقتصاداً في شمال أفريقيا وغرب آسيا. وأظهر المؤشر أن أداء الكويت في مخرجات الابتكار (المرتبة 68) يفوق نسبياً مدخلاتها (المرتبة 70)، ما يعكس حاجة البلاد إلى مزيد من الاستثمار في البنية التحتية للبحث والتطوير لتحويل الموارد إلى إنجازات ابتكارية أوسع.

جاهزية الشبكات

أما في «مؤشر جاهزية الشبكات»، حلت الكويت بالمرتبة 67 عالمياً بنتيجة 49.3 نقطة من 100. وتوزعت النتائج على ركائز عدة، إذ جاءت 68 في جانب التكنولوجيا، و70 في الأفراد، و71 في الحوكمة، بينما سجلت أداءً أفضل نسبياً في ركيزة الأثر بحلولها في المرتبة 50.

وفي المقابل، خطفت الكويت الصدارة إقليمياً عبر مؤشر تنمية الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات (IDI)، الصادر عن الاتحاد الدولي للاتصالات (ITU)، حيث حلت في المركز الأول على مستوى المنطقة للعام الثاني على التوالي 2024، وهو إنجاز يعكس جهودها في تطوير قطاع الاتصالات وتوسيع نطاق الخدمات الرقمية.

كما يُتوقع أن ينمو سوق تكنولوجيا المعلومات والاتصالات من 22.48 مليار دولار (2023) ليصل 39.83 مليار خلال 5 سنوات.

وعلى صعيد البنية التحتية الرقمية، ويتوقع أن يسجل سوق مراكز البيانات قفزة نوعية ليبلغ 340 مليوناً بحلول 2029.

وتدعم المشاريع الكبرى هذا الطموح من خلال دمج التقنيات الذكية. فمشروع مدينة الحرير، الذي يغطي 250 كيلومتراً مربعاً، يستهدف دمج تقنيات المدن الذكية مثل الذكاء الاصطناعي والإنترنت الذكي لتكون جاذبة للاستثمارات العالمية.

كما أن مشروع ميناء مبارك الكبير، الذي يُتوقع اكتماله بحلول 2026، سيحوّل الكويت إلى مركز لوجستي إقليمي يعالج 3 ملايين حاوية سنوياً، مدعوماً بتقنيات الذكاء الاصطناعي لإدارة الشحنات بكفاءة عالية.

كما امتلكت الكويت أساساً متيناً للاتصال بفضل شبكة الجيل الخامس المتقدم (G5 Advanced).

وحسب الهيئة العامة للاتصالات وتقنية المعلومات، بلغ عدد مستخدمي الإنترنت في الكويت نحو 4.94 مليون مطلع 2025، بنسبة انتشار وصلت 99.7 في المئة من إجمالي السكان، ووصلت نسبة نفاذ الأسر للإنترنت بلغ 99.4 في المئة.

وحصلت الكويت على المركز الأول عالمياً في مؤشر تطوير قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات (IDI) الصادر من الاتحاد الدولي للاتصالات، للمرة الثانية على التوالي.وذكرت أن تطوير المؤشر يعطي انطباعاً إيجابياً للمستثمر الأجنبي، ما يسهم في جذب رؤوس الأموال الأجنبية للاستثمار داخل الكويت؛ لإتاحة فرص عمل جديدة وتنوع مصادر الدخل في الكويت.

وارتفعت اشتراكات الهواتف المحمولة إلى 7.78 مليون اشتراك، ما يعادل 156 في المئة من السكان. وعززت شركات الاتصالات هذا الأساس، حيث أطلقت شبكات

«5G Advanced» في منتصف 2025، مع سرعات تحميل عالية تصل 295.4 ميغابت/ثانية. وهذا يضمن بنية تحتية رقمية قوية وفعالة تدعم تطبيقات الذكاء الاصطناعي والمدن الذكية.

طريق الريادة

لكن ورغم المقومات القوية، لا يخلو طريق الكويت للريادة من تحديات جوهرية والتي يمكن التغلب عليها من خلال التجارب المتقدمة:

1 - هناك حاجة لزيادة الكفاءات المحلية، ما يمكن تحقيقه بالاستفادة من تجربة سنغافورة التي نجحت في بناء اقتصادها المعرفي من خلال الاستثمار المكثف في التعليم، عبر التوسع بإطلاق برامج وطنية شاملة تركز على تزويد الشباب بمهارات المستقبل مثل البرمجة والذكاء الاصطناعي، بدءاً من المناهج الدراسية وصولاً إلى التدريب المهني المتخصص.

2 - لم تظهر الكويت بعد كبيئة جاذبة ومحفزة للشركات الناشئة التقنية على غرار الإمارات التي ركزت على إنشاء بيئة عمل سهلة ومحفّزة للشركات الناشئة من خلال توفير التمويل الحكومي، وتسهيل الإجراءات التنظيمية، وإطلاق مناطق حرة للابتكار التقني. ولذا في الأنظار تتجه نحو إنشاء حاضنات ومسرّعات أعمال قوية وفعالة، وتوفير التمويل الجريء، وتحديث السياسات الحكومية لتشجيع المخاطرة والابتكار.

ولتحويل إمكاناتها إلى حقيقة ملموسة، يجب تبني إستراتيجيات واضحة ومستدامة، تتضمن إطلاق برنامج وطني لتعزيز التعليم والمهارات الرقمية لتدريب عدد كبير من الشباب في مجالات الذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات، بالتعاون مع الجامعات والشركات العالمية.

خارطة طريق

ويشدد اقتصاديون على الحاجة لتأسيس صندوق سيادي للابتكار التقني، لتمويل الشركات الناشئة وتوفير التمويل الجريء، إضافة إلى إطلاق «منطقة حرة للتقنية والابتكار»، تتمتع بتنظيمات مرنة وبيئة عمل داعمة، لجذب الشركات العالمية، مؤكدين أهمية تسريع وتيرة تفعيل الحكومة الرقمية والخدمات الذكية لرفع الكفاءة وخلق طلب على الحلول التقنية المحلية، مع العمل على تطوير الإطار التشريعي لتعزيز حماية البيانات والملكية الفكرية لجعل البيئة القانونية آمنة وجاذبة للاستثمارات.

المستقبل يبدأ ببناء الكفاءات وخلق بيئة داعمة... للابتكار

قصة نجاح سنغافورة والإمارات لم تكن وليدة ليلة وضحاها، بل نتاج عقود من العمل الممنهج والالتزام بالرؤية.

ويمكن القول إن الكويت تتمتع اليوم بجميع المقومات المالية والجغرافية للانطلاق بقوة، مدعومة باستثمارات ضخمة في البنية التحتية الرقمية العالمية. ولعل التحدي الحقيقي يكمن الآن في الاستثمار في الإنسان، من خلال بناء الكفاءات المحلية وخلق بيئة داعمة للابتكار وريادة الأعمال.

وبتطبيق الدروس المستفادة من التجارب الإقليمية والدولية، وتمكين الشباب، يمكن للكويت أن تتحول من قوة نفطية إلى مركز إقليمي رائد للتكنولوجيا، محققة بذلك أهداف رؤية 2035 الطموحة.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي