لو انطلقت صافرات الإنذار في مدينة عربية، فسوف تُدوّي معها مشاعر الغضب والخوف. وعندما يسقط صاروخ، تتحرك الحشود، تشتعل التظاهرات، تُرفع اللافتات، وتُسمع الهتافات في الشوارع والساحات «نرفض العدوان!» و«الموت للمعتدي».
شعوب تتجمهر، تنفعل، تصرخ... الغضب يعكس وطنية وروح نتمنى أن تستمر ولا اعتراض عليها، ولكن ماذا عن تلك الحرب الصامتة؟ الحرب التي لا تطرق أبواب البيوت ولا تثير الرعب في قلوب الأطفال؟ إنها الحرب على الثقافة والهوية واللغة. الصواريخ التي تُطلق على الوعي لا تُرى ولا تُسمع، لكنها تُحدث دماراً أعمق من أي سلاح عسكري.
هل سمع أحدكم احتجاجاً حينما تم استبدال اللغة العربية في لافتات محلاتنا بالإعلانات الأجنبية؟ هل خرجت مسيرة واحدة عندما أصبحت اللغة الإنكليزية هي لغة التعليم الرسمي والجامعي في كثير من الدول العربية، حتى بات الطالب العربي يشعر بالغربة في بلاده؟ هل احتج أحد عندما أُخرج الأدب العربي من المناهج، واستُبدل بمفاهيم تجارية باردة؟
الحقيقة أننا نثور للصاروخ... ونصمت للغزو الفكري، ننتفض حين تنهار جدران منازلنا، لكن لا نهتز حين تنهدم جدران هويتنا.
الثقافة ليست رفاهية، وليست قضية نخبة أو كّتاب أو علماء. الثقافة هي الدرع الداخلي للأمة، هي ما يجعل الشعب يشعر بذاته ويصمد في وجه الانكسارات. اللغة ليست مجرد أداة تواصل، بل هي وعاء الفكر وذاكرة التاريخ. فإذا ضُربت الثقافة، سقطت الشعوب بلا مقاومة.
انظر كيف تنهض أمم العالم: فرنسا تصارع لحماية لغتها من الهيمنة الأنغلوساكسونية... الصين تفرض لغتها في كل مفصل من مفاصل الحياة. اليابان ترفض تدريس العلوم بغير لغتها، وتُصدّر ثقافتها مع كل سلعة.
حتى عدونا الكيان الصهيوني يعلم بلغته العبرية في مناهج التعليم، حتى الطب والعلوم.
أما نحن، فيبدو أن المعركة ضد الغزو الثقافي لا تثير لدينا الحميّة، تُستبدل لغتنا، تُشوَّه مفاهيمنا، ويُقدَّم لنا محتوى ثقافياً غريباً لا يعرف العروبة ولا يحترم التاريخ... ولا نسمع صوتاً يعترض ويطالب باحترام ثقافتنا ولغتنا.
وتتجلى المأساة حين نسمع أصوات من بني جلدتنا ويتكلمون بلغتنا نسمعهم وهم يبررون هذا الغزو الأجنبي وسياسة التغريب... يبررون كل ذلك بحجج واهية وجهالة مطلقة، ولا نجد من يقف ضد هذا الطابور الخامس الذي هو سبب تخلفنا وتراجعنا.
إن الصاروخ الذي يسقط على المنازل يُشعرنا بالفزع المباشر، أما «غارات اللغة» فهي بطيئة، ناعمة، بلا دخان، ولا دمار ملموس.
ولكنها في النهاية تهدم الفكر والثقافة والخصوصية، التي تجعل الحضارات تتميز بالتنوع وتتنافس في ما بينها لخير البشرية.
يا شعوباً تملأ الساحات إذا اهتزّ جدار، متى تُملأ الساحات إذا انكسرت اللغة؟ يا من تهتفون للحرية، متى تهتفون لاستقلال الفكر؟
إن حماية الثقافة ليست قضية الماضي، بل شرط المستقبل، وما دام أعداؤنا يحافظون على ثقافتهم ولغتهم، فسوف ينتصرون دائما علينا... فلن تنتصر أمة أضاعت ثقافتها ولغتها.