سافر إلى ذاتك

درجات المشاعر

تصغير
تكبير

في أعماق النفس البشرية، تعيش المشاعر كأنها طبقات من الضوء والظل، لا تظهر دفعة واحدة، بل تتسلل إلينا تدريجياً، تتلون بتجاربنا، وتتشكل من وعينا وذاكرتنا وطريقة تفسيرنا للأحداث. ليست المشاعر «إماً حزينة أو سعيدة»، بل طيف واسع من الدرجات، يبدأ بالانطباع الخفيف ويمتد إلى الانفجار العاطفي العميق.

فالقلق، مثلاً، لا يظهر فجأة على هيئة نوبة هلع، بل يبدأ بإحساس داخلي مبهم: ربما ارتباك خفيف، تسارع طفيف في ضربات القلب عند التفكير في موقف قادم. إن تُرك دون وعي أو احتواء، يتصاعد شيئاً فشيئاً حتى يصبح وحشاً يستهلك طاقتنا.

الحزن أيضاً، لا يأتي صارخاً. قد يبدأ بصمت غير مفسر، قلة رغبة في التفاعل، ثم شعور بثقل في الجسد، ثم بكاء بلا سبب واضح، ثم عزلة تامة. هذه الدرجات تشبه نزول البحر: من الملامسة الخفيفة عند الشاطئ، إلى الغرق في الأعماق.

الفرح ليس مجرد ضحكة. هناك سعادة هادئة نلمسها في دفء حضن، أو في لحظة إنجاز داخلي لا يراه الآخرون. وهناك البهجة التي تخطف القلب وتلمع في العيون. وهناك النشوة، ذلك الفيض العاطفي الذي يجعلنا نكاد نطير من الفرح.

لكننا أحياناً، نخطئ في الترجمة. نقول «أنا غاضب»، بينما نحن مجروحون. أو نقول «أنا متضايق» بينما نحن خائفون. هذا التشويش في إدراك درجتنا العاطفية يجعلنا نتصرف بانفجار لا يشبه السبب الحقيقي، فنخسر حواراً أو علاقة أو حتى أنفسنا.

الوعي بدرجات المشاعر هو شكل من أشكال الذكاء العاطفي، بل هو بوابة النجاة من الانفعالات التي تُدار بنا دون أن ندري. عندما أسأل: «ما هو شعوري الآن، وما درجته؟» فإنني لا أصف حالتي فقط، بل أبدأ في إدارتها.

مشاعرنا ليست مشكلة، بل رسائل. لكننا نحتاج أن نفك رموزها، نميز بين الغضب الناتج من خيبة، وبين الغضب الناتج من ظلم، وبين الغضب الناتج من جوع أو إرهاق. فكل شعور له مستوى، وكل مستوى يحتاج إلى استجابة مختلفة.

ولعلنا نحتاج أن نتعلم كيف نحترم مشاعرنا كما نحترم ضيوفاً في بيتنا. لا نغلق الباب في وجهها، ولا نتركها تعبث في الداخل دون رقابة، بل نستقبلها، نسألها عن سبب قدومها، وندعها ترحل حين يحين وقتها.

لذلك، كلما شعرت بشيء، توقف قليلاً واسأل نفسك:

هل أنا فعلاً غاضب؟

أم خائف؟

هل ما أشعر به الآن هو «درجة خفيفة من القلق»، أم «ذعر حاد»؟ هل هذا «شوق طبيعي»، أم «احتياج مرضي»؟

هذه الأسئلة ليست فلسفة فارغة، بل أدوات للنجاة. لأن من يعرف درجات مشاعره، يعرف أين يقف، وأين يجب أن يتجه.

وختاماً، إن فهم درجات المشاعر ليس رفاهية نفسية، بل ضرورة يومية لصحة علاقاتنا واستقرارنا الداخلي. فالعاطفة حين تُفهم تُروّض، وحين تُنكر تتحول إلى سلوك جارح أو ألم صامت. نحن لا نُخلق لنكبت، ولا لننفجر، بل لنعبّر بوعي، ونعيش بصدق، ونختار ردود أفعالنا من مركز الوعي لا من فوضى الشعور.

دعونا لا نكتفي بقول «أنا بخير» أو «أنا تعبان» - بل نتعلم أن نقول:

«أنا قلق بنسبة 40 ٪، ومحتاج طمأنينة».

«أنا سعيد، بس فيني شوية خوف من التغيير».

«أنا غاضب، بس أدري إني موجوع أكثر من إني فعلاً زعلان».

في هذا الوعي، يكمن الشفاء. وفي التدرج، يكمن الفهم. وفي الفهم، نجد أنفسنا مرة أخرى - أكثر صدقاً، أكثر اتزاناً، وأكثر إنسانية.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي