الرحمة... جوهر الضمير

تصغير
تكبير

في زحام هذا العالم المتسارع، وبين ضجيج المصالح وتزاحم الرغبات، قد ننسى تلك القيمة السامية التي لولاها لانطفأت إنسانيتنا... إنها الرحمة.

هل تساءلت يوماً؟

لو كانت الرحمة تسكن القلوب حقاً، هل كان للمظلوم أن يعيش وجع القهر وحده؟ هل كانت دموعه لتغرق وسادته كل ليلة، بينما لا أحد يمد له يد العزاء أو يواسيه بكلمة؟ ولو كانت الرحمة تُشعل القلوب، هل كان الفقير ليسهر على جوعه، يراقب أفواه الآخرين وهي تمتلئ، بينما هو يعجز عن ملء فمه بلقمة تسد رمقه؟

إنه مشهد يتكرّر في كل زاوية من هذا الكوكب: ثروات تُبذر بتفاخر، ومشتريات فاخرة تُعرض بلا مراعاة، بينما على الطرف الآخر، هناك من يتضور جوعاً، ويكاد ينهار تحت وطأة الحاجة.

الرحمة الغائبة لا تفرّق بين غني يتكبر، وفقير يتألم بصمت. وكأن الضمير الإنساني قد أصيب بالخدر، أو صار رفاهية لا يتحمّلها العالم الذي أدمن التنافس على المكاسب، ونسي وجع الإنسان.

حين نتأمل الواقع بصدق، نرى أن كثيراً من مآسي العالم لم تكن لتوجد لو أن الرحمة ظلت حاضرة في القلوب.

في هذا العالم الكبير، حيث يتصل كل شيء بكل شيء، تسيل دماء الأبرياء بلا سبب، ويُيتَّم الأطفال، وتُثكَل الأمهات، وتُفقد الأرواح في صراعات عبثية لا ترحم.

ما زالت هناك شعوب تموت جوعاً، وأخرى تمزقها الحروب، وأخرى يُنهكها القمع والنفي، لا لشيء سوى أن الضمير العالمي بات انتقائياً، لا يستيقظ إلا حين تتقاطع المصلحة مع المعاناة.

بالله عليكم، لو كانت الرحمة فينا كأفراد، وفي قراراتنا كأمم، هل كنا لنشهد هذه الكوارث؟ هل كان سيُسمح بانتهاك الكرامة البشرية على مرأى من العالم دون أن يتحرّك ساكن؟ لو رحم بعضنا بعضاً، لو كانت الرحمة معياراً في الحكم والسياسة، في الاقتصاد والإعلام، لكان الإنسان أكثر إنسانية، وأكثر حذراً في أفعاله، وأكثر احتراماً لحقوق غيره. لما انتشرت الغيرة والحسد والحقد، ولما وجدت الخيانة طريقاً إلى العلاقات، ولا السخرية مأوى في النفوس. فالرحمة إذا غابت، تقسو الأرض ومن عليها.

نحن اليوم في أمسّ الحاجة إلى وقفة ضمير.

وقفة يراجع فيها كل فرد، وكل أمة، موقع الرحمة في قراراته اليومية، في تعامله مع الآخر، في نظرته للفقير، للمظلوم، للمُهمَّش والمنسي.

الرحمة ليست عاطفة، بل ضرورة أخلاقية. إنها جوهر العدالة، وروح الإنسانية، ومفتاح السلام الذي ننشده جميعاً، ولا يتحقق إلا حين يرفرف من الداخل إلى الخارج، من القلب إلى العالم.

وقد صدق الأديب مصطفى لطفي المنفلوطي حين قال:

(لو تراحم الناس، لما كان بينهم جائع، ولا مغبون، ولا مهضوم).

نعم، لو تراحم الناس، لما احتاج الضمير العالمي أن يصدر بيانات إدانة خجولة، ولا كانت المعاناة تُقابل بالصمت.

لو تراحمنا، لكان لكل إنسان كرامة محفوظة، ولكل مظلوم ناصر، ولكل جائع يد تمتد بالعطاء لا بالمنّ.

فعلينا أن نُحييَ هذه القيمة في أنفسنا، وأن نُربِّي عليها أبناءنا، وأن نجعل من الرحمة مبدأً لا يتجزأ، لا في بيوتنا فقط، بل في وعينا الجمعي كأمم وشعوب.

علّ الرحمة تعود نوراً يهدي، لا شعوراً يُنسى، فيغدو هذا العالم، رغم اتساع أوجاعه، أكثر عدلاً وإنصافاً وسلاماً.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي