رأي قلمي

بعد هذا وذاك...!

تصغير
تكبير

قال الله تعالى عن الأنعام: «وَلَكُم فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسرَحُونَ» (النحل: 6).

إن في بعض الأنعام جمال الصورة، كما هو الشأن في الخيل، وهناك نوع آخر من الجمال يكمن في انشراح الصدر، والشعور بالغنى وكثرة الخير حين تندفع في قطعان كبيرة في الصباح نحو المراعي، وحين تروح في المساء إلى أماكن سكناها ومعاطنها.

الجمال جمالان: جمال الظاهر وجمال الباطن، أو جمال الشكل والجسد، وجمال العقل والروح، ولابد أن نمتلك الوعي بأهمية جمال الباطن، ونعمل على امتلاك مقوماته، على الصعيد الشخصي، والتركيز عليه عند اختيار شريك الحياة والموافقة عليه.

إن إدراك جمال الظاهر، أو الشكل، يتم من خلال العين، أما جمال الروح، أو الجمال الباطني، فإنه يتم إدراكه من خلال البصيرة أو الحواس العقلية والروحية، أي من خلال ما يبديه العقل والروح من سرور وارتياح، ولهذا فتقدير كثير من الناس ينصرف إلى جمال الشكل والصورة، لأن الوعي بجمال الروح، وبالتالي تقديره والشغف به يحتاج إلى شيءٍ من الشفافية والملاحظة والتجربة والخبرة.

إنّ جمال الشكل غير قادر على الاستقلال في جذب الآخرين، وغير قادر على الصمود في وجه تعاقب الأيام والليالي، لكن جمال الروح مختلف، فهو لا يفتقر إلى جمال الشكل إلا إلى الحد الذي ينتفي معه القبح المنفر، ولو أننا تأملنا في أولئك الذين نعدهم أصدقاء أعزاء لوجدنا أن ما يعجبنا فيهم هو جمال عقولهم وأرواحهم وطيبة قلوبهم. جمال الروح بعد هذا وذاك قابل إلى الاكتساب، فنحن نظل قادرين على اكتساب الصفات التي تجعلنا محبوبين ومؤنسين للآخرين، وليس كذلك جمال الشكل.

صدق المشاعر من أهم مقومات جمال الروح، لأن الصدق في حد ذاته فضيلة كبيرة، وصدق المشاعر تاج تلك الفضيلة، والناس يلمسون صدق مشاعر بعضهم بعضاً من خلال بعض السلوكيات مثل الاتصال الدائم الذي لا يستهدف أي مصلحة مادية، ومثل الثقة حيث يطلعنا صاحب المشاعر الصادقة على بعض خصوصياته ثقةً منه بكتماننا لها، ومثل الوفاء بالوعود، والحرص على مشاركة اللحظات الجميلة، فالإنسان حين يكون في حالة سرور وانشراح يتذكر أقرب الناس إليه ليزيد حضورهم في سروره وبهجته.

لدى كثيرين منا شهوة عارمة للسيطرة على المجالس، والتحدث أطول فترة ممكنة، وهذا يجعل الكثيرين يشعرون بالضيق، وأنهم لم ينالوا حظهم من الحضور والتأثير، هنا يأتي دور المستمع الجيد، الذي يُشعر الآخرين بأهميتهم، وأهمية ما يقولونه من خلال الإصغاء والاستفهام والنقاش الهادئ المهذّب.

لم نندم في حياتنا على موقف كنا فيه لطفاء مع أشخاص قد لا يستحقون ذلك، وهذا لأن الإنسان اللطيف يعتبر الخشونة مع الناس إساءة للذات قبل أن تكون إساءة للآخرين. المجالس الفخمة ليست المفروشة بأفضل الأثاث، ولكن تلك التي يتبادل فيها الجلساء العبارات المفعمة بالتقدير والاحترام، والإعذار والنعومة والتلميح والإشارات الذكية، مع مراعاة شديدة للمشاعر والاعتبارات الشخصية للجالسين، فذلك هو الجمال الحقيقي للباطن.

[email protected]

mona_alwohaib@

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي