سافر إلى ذاتك

القرقيعان... ليلة يطرق فيها الأطفال أبواب القلوب قبل البيوت

تصغير
تكبير

في كل عام، حينما ينتصف رمضان، تمتلئ الأزقة بصوت الأجراس الصغيرة التي يحملها الأطفال، وتهتز الشوارع بأقدامهم الراكضة بين البيوت، تسبقهم ضحكاتهم وأهازيجهم. ليس مجرد احتفال، بل هو درس اجتماعي مغلف بالسعادة، حيث يتعلّم الصغار كيف تكون المحبة جسراً بين القلوب، وكيف أن للجار نصيباً من الفرح كما له نصيب من الحياة.

القرقيعان ليس مجرد كيس ممتلئ بالحلوى، بل هو كف صغير يُمد بابتسامة، يطرق الأبواب وينتظر العطاء، فيتعلم أن العلاقات لا تُبنى فقط بالكلام، بل بالمشاركة، بالمبادرة، بالتفاعل. كل باب يُفتح هو رسالة غير منطوقة بأن الناس للناس، وأن الجيرة ليست جدراناً صامتة، بل هي وجوه مألوفة وقلوب تتسع بالمحبة.

الأطفال في هذه الليلة يخرجون ليكتشفوا أن المجتمع ليس مجرد فكرة، بل هو كيان حي، يتنفس بالمودة، ويتحرك باللقاءات البسيطة التي تصنع أثراً لا يُنسى.

تخيل طفلاً يقف أمام باب جاره، يرفع كيسه بفرح، فيُقابله رجل مسن يبتسم له ويمنحه حفنة من المكسرات، أو سيدة تُربّت على رأسه بمحبة، أو شاب يُشجعه على تكرار النشيد بصوت أعلى. هذه اللحظات التي تبدو عابرة هي دروس تُحفر في القلب قبل الذاكرة، حيث يدرك الطفل أن الفرح ليس أن تأخذ فقط، بل أن تُعطي، وأن التقدير يأتي في تفاصيل صغيرة مثل ابتسامة أو قطعة حلوى، وأن الإنسان ليس وحده في هذا العالم، بل تحيط به أيادٍ تمتد له بغير مقابل سوى نشر البهجة.

القرقيعان يزرع في الأطفال مهارات اجتماعية دون أن يشعروا، يعلمهم كيف يكونون أكثر جرأة، كيف يتحدثون بأدب، كيف يشكرون، وكيف يتشاركون الفرح دون أن يُطلب منهم ذلك. إنه تدريب عملي على الحياة، حيث يتعلمون كيف تكون البساطة سر السعادة، وكيف أن الطرق على الأبواب قد يفتح أبواباً أخرى في قلوب الناس.

ما أجمل أن نعيد النظر في هذه العادات لا باعتبارها طقساً سنوياً، بل كوسيلة تربية غير مباشرة، تغرس في الأطفال قيماً تنمو معهم، حتى إذا كبروا، لم يكن الجار غريباً، ولا المجتمع مجرد زحام صامت، بل نسيج حي يتقاسم الفرح كما يتقاسم الأيام. ليلة واحدة تصنع فارقاً، تترك أثراً، وتُعلّم درساً يظل حاضراً في قلوب الصغار حتى يكبروا، فيعلمون أن العلاقات الإنسانية ليست مجرد كلمات تُقال، بل أبواب تُفتح، ووجوه تُبتسم، وقلوب تتواصل بلغة أبسط من الكلمات.

تحياتي.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي