كان إجراء الانتخابات النيابيّة الأردنيّة في موعدها، وما تلاها من تشكيل حكومة جديدة برئاسة جعفر حسّان، حدثاً في غاية الأهمّية لإسكات الأصوات التي تحاول النيل من المملكة الأردنيّة الهاشميّة في هذه الظروف المعقدة التي تواجه المنطقة كلّها.
الحدث مهمّ نظراً إلى أنه يكشف صلابة مؤسسات الدولة الأردنيّة التي تعرف كيف تواجه التحديات منذ قيام إمارة شرق الأردن وتحولّها إلى مملكة.
ثمة تحديات من نوع جديد تواجه الأردن. هذا أكثر من صحيح في ضوء حرب غزّة وانعكاساتها على الضفّة الغربية والمملكة الهاشميّة نفسها.
لكنّ هذه التحديات الجديدة، التي تترافق مع جهود تبذلها إيران لضرب الاستقرار في المملكة الهاشميّة، انطلاقا من الأراضي السوريّة تحديداً، تواجه بوسائل سبق للأردن أن واجهها بها.
إنّها الوسائل نفسها التي يواجه بها الأردن العدوانيّة الإسرائيليّة التي لا يبدو أنّ هناك حدوداً لها.
يرمز إلى تلك العدوانيّة، التي في أساسها رفض الاعتراف بوجود شعب فلسطيني على أرض فلسطين، شخص بنيامين نتنياهو. يعبّر «بيبي» عن العدوانيّة الإسرائيلية أفضل تعبير.
في مقدّم الوسائل الدفاعيّة الناجعة للأردن التأكيد أن البلد يمتلك القدرة على الصمود، بل على أخذ المبادرات من دون أن يحيد عن الخطوط العريضة لسياسته القائمة على مواجهة التطرّف والمتطرفين.
في أساس هذه السياسة خيار الدولتين، أي خيار الدولة الفلسطينيّة المستقلّة.
جاءت الانتخابات لتعبّر عن وجود دولة أردنيّة تمتلك سياسة متكاملة على الصعيدين الداخلي والخارجي. هذه الدولة الأردنيّة متصالحة مع شعبها ولا تستطيع في الوقت ذاته التراخي عندما يتعلّق الأمر بتطرف ومتطرفين ومزايدين. لا تتجاهل الدولة الأردنيّة المزاج الشعبي. لكنّها لا تنقاد له.
على العكس من ذلك، عرفت الدولة الأردنيّة كيف تستوعب حادث قتل سائق شاحنة اردني، من معان، ثلاثة إسرائيليين عن جسر الملك حسين (جسر اللنبي سابقا) الذي يربط شرق الأردن بالضفّة الغربيّة.
كذلك، جعلت العملية الانتخابيّة تأخذ مجراها الطبيعي. حقّق الإسلاميون من «جبهة العمل الإسلامي» تقدّماً في الانتخابات. حصل هؤلاء على 32 مقعداً من أصل 138 يتألف منها مجلس النواب الأردني.
من الطبيعي حصول مثل التقدم في هذه الظروف بالذات في وقت يريد الأردنيون من كلّ المشارب الإعراب عن امتعاضهم من الممارسات الوحشية الإسرائيلية.
لكن يبقى السؤال هل يستطيع ممثلو الإسلاميين في البرلمان، وهم من الإخوان المسلمين، إثبات أنّ ليست لديهم ارتباطات أو أجندات خارجيّة وأن ولاءهم للأردن أولاً؟
أجرى الأردن انتخابات حرة ونزيهة جاءت بنواب من الإخوان إلى البرلمان. على هؤلاء الردّ على التحيّة بأفضل منها.
ليس هناك شكّ في أن المنصات المتاحة أمام الإخوان المسلمين محدودة. فتح الأردن أمام الإخوان نافذة. فهل يستغلون الفرصة لإثبات أنهم حزب أردني لا يمتلك أجندات خارجيّة؟
على الرغم من كلّ الضغوط التي تمارس على الأردن، الذي يقف عند أطول خط مواجهة مع إسرائيل، لابدّ من التوقف عند موقف الملك عبدالله الثاني الذي اعتمد منذ سنوات طويلة خطّا في غاية الوضوح يعتمد على لغة العقل والحكمة.
تظلّ حجر الزاوية في الخط السياسي الأردني الدولة الفلسطينيّة المستقلّة التي لا مخرج من حرب غزّة ومن كلّ الحروب الأخرى المرافقة لها من دونها.
عرف الأردن دائماً كيف يلعب دوراً قيادياً على صعيد المنطقة من جهة وفي مواجهة إسرائيل التي حصلت سياستها العدوانيّة، في أحيان كثيرة على دعم أميركي، من جهة أخرى.
يؤكد ذلك ما فعلته إدارة دونالد ترامب التي اعترفت بالقدس «العاصمة الموحدة» لإسرائيل متجاهلة الدور الأردني والهاشمي تحديداً في حماية الأماكن المقدسة المسيحية والإسلاميّة التي احتلت إسرائيل القسم الشرقي منها في العام 1967.
هذه ليست المرّة الأولى التي يصعد فيها الإسلاميون في الأردن مستفيدين من وضع داخلي معيّن.
أسفرت نتائج الانتخابات التي أجريت في نوفمبر 1989، والتي كانت مؤشراً إلى عودة الحياة البرلمانية بعد قرار فك الارتباط مع الضفّة الغربيّة، عن وجود قوي للإسلاميين في مجلس النواب.
شمل ذلك ما كان يسمّى الدائرة الثالثة في عمان، حيث نمط حياة مختلف عن ذلك الذي يروج له الإخوان المسلمون.
قال الملك حسين، رحمه الله، في مؤتمر صحافي عقده مباشرة بعد إعلان النتائج موجها كلامه إلى المواطنين الذين لم يشاركوا في التصويت: «من لم يصوّت، ذنبه على جنبه».
ما حدث بعد انتخابات 1989 أنّ العملية السياسية استمرت من دون توقف.
لم يقدّم وجود الإسلاميين في مجلس النواب ولم يؤخر بمقدار ما أن هذا الوجود إشارة إلى أن ضغوطا داخلية تمارس على الحكومة الأردنية بسبب المزاج الشعبي الذي يولده الاحتلال الإسرائيلي والوحشية التي تمارسها الدولة العبريّة.
كانت الرسالة، من خلال الانتخابات، الأخيرة واضحة. صارت الانتخابات جزءاً من الدفاع عن الأردن وعن استمرار الحياة السياسيّة فيه بعيداً عن التطرف والمتطرفين.
هناك، بكل بساطة دولة مؤسسات في الأردن يحميها أول ما يحميها تلاحم شعبي يزداد في ضوء إدراك الأردنيين من أصل فلسطيني، في أكثريتهم، أن المملكة الهاشميّة ضمانة لهم.
سينجح الأردن، رغم مشاكله الاقتصاديّة، في مرحلة تكرس فيها المصير المشترك بين جميع الأردنيين، اكانوا من أصل فلسطيني أو شرق أردنيين.
يكرّس هذا المصير المشترك العقل المستنير لعبدالله الثاني وفعالية المؤسسات الأمنية من جيش وأجهزة تعرف تماما كيف تكون في حجم التحديات الجديدة - القديمة امام بلد يتأكد يوماً بعد يوم كم هو مهمّ لاستقرار منطقة تقف على كفّ عفريت.