زارا ابراهيم صالح / العثمانيون الجدد والحنين إلى الماضي!

تصغير
تكبير
إن التسليم بمقولة (التاريخ يعيد نفسه), قد لا يكون صائباً في أغلب الأحيان لكن الحالة التركية الراهنة تجعلنا نسلم ببعض الأدلة التاريخية التي تتكرر بصور مختلفة. فعندما هرب شاه سليمان، جد السلطان عثمان، من بطش جنكيز خان من مناطق توران وخراسان إلى مناطق تركيا الحالية, لم يخطر لذلك الرجل بأن حفيده سيصبح سلطاناً ذا شأن، وعلى تلك المكانة والشهرة والنفوذ, لكنه تحقق بالفعل وحكم العثمانيون وأحفادهم المنطقة, بل ووسعوا في احتلالهم وحكمهم إلى قسم كبير من أوروبا الشرقية، (هذا عدا المناطق والدول العربية التي حكموها قروناً من الزمن), وكانت الخلافة الإسلامية عثمانية طيلة تلك الفترة إلى أن وصلت الحالة بهم إلى (الرجل المريض) بعد الحرب العالمية الأولى. كانت تركيا في ذلك الوقت مهددة بالانقسام ومستسلمة لشروط الدول الكبرى المنتصرة في الحرب, وأقرت بذلك في اتفاقية «سيفر» 1920. لكن ظهور كمال أتاتورك غير في الموازين, فبفضل حنكته السياسية استطاع أن ينقذ تركيا ويتفق مع الفرنسيين والانكليز وكذلك مع الروس( السوفيت الجدد), ويلغي الاتفاقية السابقة ويخرج منتصراً في حربه مع اليونان، ويعقد اتفاقية جديدة لصالحه في لوزان بسويسرا عام 1923.

اليوم يبدو أن الأحفاد الجدد، ومنهم حزب اردوغان، بدأوا يشعرون بذلك الحنين إلى ارثهم التاريخي, خاصة بعد فشل مشروعهم السابق (تركيا الكبرى) بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، وتغيير الموازنات والتحالفات الدولية بعد سقوط نظام صدام.

فتركيا التي تقدم نفسها بوجوه متعددة مستفيدة من موقعها الجيوسياسي وعضويتها في الناتو, لا تقف عند حدود (علمانيتها) التي تدعيها منذ كمال أتاتورك رغم غلبة الشعور والتعصب القومي على المجتمع التركي, وتحاول الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي رغم عدم التزامها بشروط الاتحاد (قضايا حقوق الإنسان, قبرص والقضية الكردية، ...), لهذا فهي تسعى جاهدة إلى أخذ العديد من المبادرات، ومحاولة لعب دور محوري في منطقة الشرق الأوسط من خلال القضايا العربية والإسلامية، وتساعدها في ذلك ظروف دول الجوار التي تتفق فيما بينها على القضية الكردية، وخطرها المزعوم، وتساهم دول عربية في إفساح المجال لتركيا رغم وجود إجماع عربي على التحفظ على دور إيران وتركيا في القضايا العربية.

ولعل الطموح التركي بدأ يأخذ حجماً أكبر, فالسيطرة على منابع الثروات المائية (نهري دجلة والفرات)، وإقامة أضخم السدود عليها, وإقامة أفضل العلاقات الاستراتيجية مع إسرائيل, عضويتها في حلف الناتو, لعب دور الوسيط والمصالحة في العديد من القضايا مثل المباحثات غير المباشرة بين سورية وإسرائيل, تدخلها المستمر في شؤون دول الجوار, بل وحتى احتلال (لواء اسكندرون السورية), وأخيراً محاولاتها الحثيثة في تسلم الملف الفلسطيني وأخذ المبادرة من إيران التي تتحكم جيداً في هذه القضية من خلال أجندتها الإقليمية.

ترى هل تستطيع تركيا حمل هذه السلة من التناقضات، كيف بمقدورها التوافق بين علاقاتها الاستراتيجية مع إسرائيل التي تحتل أرضاً عربية وإسلامية، وبين التزامها الديني في الدفاع عن الشعب الفلسطيني، كيف تبرر علمانيتها وإسلاميتها ودفاعها عن المظلومين, وهي لا تطبق ذلك في داخلها مثل (قضية أكثر من عشرين مليون كردي مسلم محرومين من الحقوق كافة, قضية قبرص, تهديداتها وتدخلها في العراق تحت ذريعة حماية التركمان). رغم ادعاء تركيا العلمانية, إلا أن الجزء الأكبر من المجتمع التركي ذو طبيعة إسلامية محافظة ومتعصبة قومياً، وخير دليل على ذلك نتائج الانتخابات البرلمانية وسيطرة «حزب العدالة والتنمية الإسلامي» بالأغلبية عليها, وهذا ما يثير الدهشة والتناقض والشك في العديد من التوجهات التركية, وكذلك سوف تدفع تركيا فاتورة تناقضاتها في تعاملها مع قضايا المنطقة, ولن يكون سهلاً أخذ مبادرة وملف مهم من دولة أو (إمبراطورية مذهبية) مثل إيران والتي تملك أوراقا أكثر حسماً من تركيا اللهم إذا غيرت تركيا في حلفائها مثل إسرائيل, لكن الحلم شيء والواقع العملي شيء آخر, فمهما ادعت تركيا حرصها وبكاءها على الشعب الفلسطيني, لن يكون ذلك على حساب علاقاتها الاستراتيجية مع إسرائيل, والكلام لن يتعدى إطار الشعارات والمزايدات واللعب بالعاطفة وكذلك الدعاية الانتخابية لحزبها في الداخل. لكن الذي يثير الدهشة هو هذا التطبيل والتهويل من قبل البعض في الإعلام العربي، وكيل المديح لأردوغان وموقفه في «دافوس»، وتجاهل أن انسحابه جاء بسبب عدم السماح له بالكلام واختصار الوقت وليس بسبب حرب غزة, وإذا كان أردوغان بالفعل حريصاً على الشعب الفلسطيني لماذا لا يقوم بقطع علاقاته مع المحتل الإسرائيلي؟!

إن الحلم بسلطنة عثمانية جديدة على أنقاض هذا الكم من التناقضات في السياسة التركية يبدو مستحيلاً وليس هذا فقط, بل سوف تنكشف يوماً بعد يوم الوجه الحقيقي لهذه الأقنعة المزيفة والتي تتفنن في وضعها دولاً أخرى مثل إيران التي تقمع شعوبها (من عربية, كردية, أذرية) وتنفق الملايين لدعم أجندتها الإقليمية لحساب مصالحها ورهاناتها واتفاقاتها على حساب دماء الآخرين, وتحتل جزراً عربية، وتهدد دوماً دول الخليج العربي, وفي المقابل تقدم نفسها بصورة المخلص والحريص والصديق للعرب والمدافع عن قضاياهم المصيرية, فكيف يكون ذلك؟ اعتقد بأن سياسة النعامة لن تمر بهذه البساطة على شعوبنا التي تعلم كل شيء في هذا العصر المتطور من التكنولوجيا والإعلام وسرعة إيصال ومعرفة الخبر.





زارا ابراهيم صالح

كاتب مصري. ومنشور بالتعاون مع مشروع «منبر الحرية»

www.minbaralhurriyya.org
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي