على الهواء
أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا ليوم كريهة وَسِدادِ ثَغْر
أطلق هذه الحسرة المؤلمة الشاعر العرجي وهو في السجن، وكان بينه وبين محمد بن هشام بن إسماعيل المخزومي، عداوة، ومحمد هذا هو خال هشام بن عبدالملك، وكان والي مكة في ذلك الوقت.
العداوة سببها أن الشاعر العرجي كان يُشبّب (أي يتغزل) بأم محمد بن هشام، واسمها جيداء، ولم يكن هذا التشبيب بسبب محبة أو نحو ذلك من علاقة، وإنما كان الغرض منه هو فضيحة ابنها محمد بن هشام، فأخذه وسجنه، وكل يوم يخرجه ويأمر بضربه بالسّياط، وبقي في السجن تسع سنين وكان يأمر بتجويعه وضربه يوم الجمعة في المسجد أمام الناس، ولما زاد التعذيب به مات ولم يشفع له أحد رغم مكانته الرفيعة في النسب.. فهو عبدالله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان، رضي الله عنه، قال وهو في السجن:
أضاعوني وأيَّ فتى أضاعوا
ليوم كريهة وسداد ثغر
وخلّوني لمعترك المنايا
وقد شرعت أسنتهم لنحري
كأني لم أكن فيهم وسيطا
ولم تكن نسبتي في آل عمرو
أجرّرُ في الجوامع كل يوم
ألا لله مظلمتي وصبري
عسى الملك المُجيب لمن دعاه
ينجيني فيعلم كيف شكري
فأجزي بالكرامة أهل ودي
وأجزي بالضغائن أهل وتري
وقوله:
كأني لم أكن فيهم وسيطا
ولم تك نسبتي في آل عمرو
يشير إلى عمرو في نسبه، لأنه يعود إلى جده عمرو بن عثمان بن عفّان.. ولم يشفع له أحد فمات بالسجن إثر التغذيب وسوء المعاملة، أما تشبيبه وغزله بأم محمد بن هشام المخزومي (جيداء) فمن قوله:
أبصرت وجهاً لها في جِيده تلع
تحت العقود وفي القرطين تشهير
وجه تحيّر فيه الماء في بشر
صاف له حين أبدته لنا نور
ومنه أيضا قوله:
عوجي علينا ربة الهودج
إنك إن لا تفعلي تحرجي
فالحج إن حجت وماذا مِنى
وأهله إن هي لم تحجج
فما استطاعت غير أن أومات
نحوى بعيني شادن أدعج
ولما أفضت الخلافة إلى الوليد بن يزيد بن عبدالملك قبضَ على محمد بن هشام وأخيه إبراهيم ودعا لهما بالسّياط فضُربا ضرباً مبرحاً، واثقلا بالحديد ووجّه بهما إلى يوسف بن عمر، وأمره بتعذيبهما، فضربهما حتى ماتا. وكان ذلك انتقاماً للعرجي، وكان ابن عم الوليد بن يزيد وحفيد الخليفة عثمان بن عفان، رضي الله عنه.
وغنّى إسحاق الموصلي الرشيد بقول العرجي:
(أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا)، فسأل الرشيد عن سبب هذا الشعر فأخبر بحكاية العرجي وما جرى له فاغتاظ الرشيد، ولكنه سكن غضبه لما علم أن الوليد فعل بابني هشام مثلما فُعل بالشاعر العرجي.
