المطلع على خطابات أبوعبيدة (الناطق العسكري باسم كتائب القسّام) منذ تنفيذ عملية «طوفان الأقصى» إلى اليوم، يلاحظ تطوّراً نوعيّاً في مباني هذه الخطابات. ومن باب التوضيح سوف أشير إلى التحوّل الكبير في خطابه العسكري السياسي خلال الفترة الممتدّة بين خطابين محدّدين. الأول هو الخطاب الذي بُثّ في 9 أكتوبر، أي بعد يومين من «طوفان الأقصى»، والثاني بُثّ في يوم الخميس الماضي.
في الخطاب الأوّل، هدّدت كتائب القسّام على لسان أبوعبيدة بإعدام رهينة مقابل كل استهداف جديد من قبل قوّات الاحتلال لمنازل المدنيين في غزّة دون سابق إنذار، وتوعّدت ببث عمليّات الإعدام بالصوت والصورة. وأثار هذا التهديد والوعيد حالة من الهلع في الأوساط الديبلوماسية الغربية وعبر القنوات الإعلامية، إلى درجة أنهم قارنوا وقاربوا حماس بتنظيم الدولة الإسلامية. الشاهد أن هذا الخطاب كان ثورياً متمرّداً على اتفاقيات ومعاهدات ومواثيق المجتمع الدولي، وتحديداً القانون الدولي الإنساني (اتفاقيات جنيف في شأن النزاعات المسلحة).
إلى جانب الردود الغربية على الخطاب الأول، كانت هناك دعوات عربية وإسلامية علنية وسرية إلى التراجع عن تنفيذ التهديد والوعيد، بل يقال إن مطالبات بالتراجع صدرت أيضاً من داخل حركة حماس. وبالفعل تراجعت كتائب القسّام عن تنفيذ تهديدها، وامتنع أبوعبيدة عن الإشارة إليه في خطاباته اللاحقة، رغم استمرار القصف الإسرائيلي البربري على المدنيين العزّل. بل على العكس بادرت كتائب القسّام بالإفراج الأحادي الجانب عن امرأة إسرائيلية مسنّة مع طفليها. وهذه المبادرة الذكية قلبت موازين المعركة الإعلامية وأشعلت فتيل الغضب الشعبي العالمي على استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية المفرطة في انتهاك القانون الدولي الإنساني.
المجتمع الدولي خذل كثيراً الفلسطينيين، ولكنهم – رغم الحسرة والألم – يعلمون جيداً أن احترام القانون الدولي الإنساني سلاح فعّال نجع في استثارة طوفان من شعوب العالم لإرغام إسرائيل – المستمرة في انتهاك القانون ذاته – على قبول الهدنة القصيرة، ثم تمديدها، ثم – إن شاء الله – توقيع اتفاقية «وقف إطلاق نار».
لذلك، ورغم المعارضة أو الممانعة الشعبية، البراغماتية فرضت احترام القانون الدولي الإنساني في خطابات أبوعبيدة، بل إنها فرضت أيضاً إشهار وتعزيز التعاون مع «محور المقاومة»، وهذا ما ظهر جليّاً في الخطاب الثاني، الذي بُثّ في يوم الخميس الماضي، الذي اختُتم بتحيّة من ساند الفلسطينيين في غزّة بالفعل الميداني المباشر المؤلم للعدو، من جبهات إقليمية متعدّدة، سمى من بينها اليمن ولبنان والعراق.
الخطاب الثاني ترجم التطوّر المتنامي في علاقة حماس بإيران وسائر أطراف محور المقاومة، ولكنه في الوقت ذاته كشف عن استمرارية وجود جدار شعبي للفصل الطائفي، الذي ترمّمه وتدعمه إسرائيل. فأبوعبيدة وجّه التحيّة في الخطاب الثاني إلى شرائح الشعب كافة في كل من اليمن ولبنان والعراق، وهو يعلم كغيره أن شرائح محددة من تلك الشعوب هي التي نصرت الفلسطينيين بالعمل العسكري، وأن شرائح أخرى استنكرت ومازالت تستنكر هكذا نُصرة. وهذا ما يؤكّد أن هذا الجدار الشعبي مازال صلباً ومتيناً يتفادى أبوعبيدة الاصطدام به.
لذلك، أدعو حركة حماس إلى المبادرة في مرحلة إعادة الإعمار بتطوير المناهج الدراسية والخطب الدينية والرسائل الإعلامية بما يساعد على انفتاح الفلسطينيين على المذاهب الإسلامية المختلفة بدرجة مقاربة لانفتاحهم الحالي على الديانات السماوية الأخرى، وتحديداً المسيحية. فمن غير المعقول أن تدوم جدران الفصل الطائفي، رغم تبعاتها السلبية الجسيمة على المصالح العليا للأمة، بذريعة وجود اختلافات عقائدية أدنى بكثير من الاختلافات العقائدية مع الديانات السماوية الأخرى... «اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه».
abdnakhi@yahoo.com