في كتابه الشهير المعنون بـ«ادفنوا قلبي في منطقة وندد ني»
«Bury My Heart at Wounded knee»
استطاع دي براون Dee Brown أن يسلّط الضوء على إحدى المذابح التي حصلت للشعوب الأصلية في أميركا الشمالية والذين يطلق عليهم الهنود الحمر.
اكتسب كتاب براون الذي نشره في عام 1970، شهرة كبيرة وترجم إلى 17 لغة، وبيع منه خمسة ملايين نسخة.
يؤرخ الكتاب بطريقة توثيقية ممتازة للاستيطان الأوروبي وسيطرة الرجل الأبيض على العالم الجديد (الأميركتين) منذ أن وطئت قدما المجرم كريستوف كولومبس تلك الأراضي. ويخص الكتاب التاريخ الذي بدأ منه الأوروبيون المهاجرون لأميركا الشمالية والمذابح التي قاموا بها ضد المواطنين الأصليين، لينتهي بتفصيلات مهمة حول آخر أهم المذابح وهي مذبحة وندد ني في يوم 29 ديسمبر 1890 التي قام بها الجيش الأميركي ضد إحدى قبائل الهنود الحمر التي كانت تعيش في إحدى المستعمرات حيث ابيد 300 إنسان معظمهم من النساء والأطفال دون سبب منطقي.
هذه القبيلة وهي «لاكوتا Lakota» التابعة لشعب السو Sioux، والتي كانت تعيش في منطقة يطلق عليها وندد ني كانت تعاني الظلم والتجويع والتهميش في المحمية التي وضعت لهم، فباتوا يستذكرون ماضيهم ويستحضرون حقوقهم فلم يكن لهم حيلة ولا حيل، إلا أن أحد الحكماء (Medicine Man) أخذ يبشرهم بعودة المسيح المخلص مصحوباً بأرواح أسلاف الهنود الحمر الذين سيعيدون لهم عيشتهم السعيدة ضمن طقوس اطلق عليها برقصة الجن «Ghost Dance».
لقد تضايق المستوطنون البيض والحكومة الأميركية من هذه الطقوس لكونها تخلط ما بين التقاليد الدينية للهنود الحمر والمسيحية، فاعتبروها خطراً لكونها تشحذ الهمم وتجيش العواطف للمقاومة، حتى أن بعض المستوطنين البيض المتعصبين اعتبروا أن شن الحرب على الهنود الحمر هو واجب ديني يفرضه الحرص على المسيح! وكان في هذه الأثناء زعيم قبيلة اللاكوتا المعروف بلقب Sitting Bull قد دخل بمعاهدة سلام، بعد معارك كثيرة، مع الحكومة الأميركية ومكث في المستعمرة مع ما تبقى من أفراد قبيلته الذين يقدر عددهم حينها بـ 350 شخصاً.
ومع إشاعة أن هذا الزعيم يشجع انتشار هذه الرقصة بين أفراد القبائل الأخرى وقبيلته، صدر أمر باستدعائه لكن الجنود المكلفين اشتبكوا معه وقتلوه. على الفور ثار رجال القبيلة العزل من السلاح إلا القليل منهم، وما هي إلا ساعة واحدة حتى قضي على 300 شخص من رجال وأطفال ونساء بفعل المدافع الآلية للجيش الأميركي لترسم أحد أبشع صور المذابح التي ارتكبتها الحكومة الأميركية والرجل الأبيض المحتل للأرض.
بالمختصر، استطاع الرجل الأبيض المهاجر من أوروبا أن يقمع الهنود الحمر وأن يقضي على 19 مليوناً منهم إلا 120 ألفاً فقط استطاعوا النجاة حتى عام 1930، ولم يكن حينها للهنود الحمر عقيدة موحدة ولم يكن لديهم سلاح متقدم غير الرماح والسهام في مقابل المدافع والرشاشات الآلية والبنادق، ولم يكن هناك تصوير حي أو وسائل تواصل حتى تنقل إلى العالم بشاعة القتل والتشريد غير تلك القصاصات من الوثائق والكتب التاريخية التي تضمنت قليلاً من القصص ولكنها تنضح بروايات مأسوية لا يمكن لعقل بشري أن يتصورها.
أخيراً، نجح الرجل الأبيض بعقيدته السياسية والدينية المتعصبة أن يستولي على أراضي المواطنين الأصليين ويبيدهم ويسلبهم جميع حقوقهم المدنية حيث لم يعترف بهم كمواطنين إلا بعد عام 1930 تقريباً.
والآن، في العصر الراهن يأتي الرجل الأبيض من أوروبا ومن أميركا وبقية بقاع الأرض، تحت ذريعة الدين اليهودي والمسيحي والعلمانية والمدنية والديموقراطية كأغطية لصهيونية عنصرية، ليحتل ويدمر ويشرد ويقتل أبرياء رجالاً ونساءً وأطفالاً بعقلية قائد الكتيبة السابعة للجيش الأميركي الرائد صامويل وايتسايد، نفسها، في مذبحة وندد ني عشية رأس السنة الميلادية!
على الرغم من تشابه عقلية الاستيلاء والسيطرة والقتل والظلم، إلا أن الزمان والمكان مختلفان. العرب والمسلمون في فلسطين مواطنون أصليون ولكنهم ليسوا هنود حمر.
لم يركنوا إلى الأمر الواقع الذي تحاول الصهيونية وأذنابها إقناعهم بالقوة بها والاستسلام، بل مدوا أنفاسهم وطوّروا أسلحتهم وتمسّكوا بالأرض ولم يذعنوا لعصا أو جزرة المحتل للنزوح والرحيل على الرغم من التشريد بالقوة.
لم يستطع المحتل الطاغية أن يغطي الحقيقة كما كان يغطيها قبل أكثر من 150عاماً، لكونها تنقل صوت وصورة لكل العالم. وأهم ما في الأمر هو أن الفلسطينيين لم يقل شعبهم بل ازداد إلى أن بلغ أكثر من 14 مليوناً في داخل فلسطين وخارجها.
والأهم أن قضية فلسطين ليست عربية قوامها أكثر من 300 مليون أو إسلامية نفسها يناطح المليار والنصف نسمة فقط وإنما إنسانية تطول مشاعر 8 مليارات إنسان تقريباً باستثناء أقلية من الصهاينة، فالمعادلة أكيد مختلفة، لذلك جميع الشرفاء سواء كانوا مسلمين وعرباً أو من سائر الأديان يتطلع أن يدفن قلبه في القدس مع الشهداء ليكون إنساناً كريماً شريفاً.