قبل ما يزيد على عقد من الزمن، وضمن مشروع إسكان وإدماج أعداد من لاجئين سوريين في المملكة المتحدة، أُرسلت مجموعة من الأسر السوريّة اللاجئة إلى قرية مورتون (Murton) في مقاطعة «دورهام» (Durham) الإنكليزية. ولكن هذه القرية لم تكن في حينها مهيّأة لاستقبالهم، لأنها كانت تعاني من كساد مركّب. جانب من هذا الكساد كان بسبب إغلاق منجم الفحم الذي كان يعمل فيه معظم رجال القرية، والجانب الآخر الأحدث كان نتاج سياسة التقشّف التي كانت تتبنّاها الحكومة البريطانية.
هذا الكساد المركّب، ومعه عوامل أخرى، ولّدت مشاعر الكراهية ضد اللاجئين السوريين قبل وصولهم، وتحديداً منذ الإعداد لإيوائهم في القرية، منذ البدء بشراء بيوت بأسعار منخفضة جداً لإسكانهم فيها، بأسعار زهيدة لم يكن يتصوّرها أهالي القرية الذين كانوا صامدين أمام الكساد. لذلك، اقترن قُدُوم اللاجئين السوريين بصفقات الشراء التي غرست اليأس من المستقبل في نفوس أهالي القرية، وبالصفقات التي أجهزت على قدرة متقاعدي القرية على بيع بيوتهم للانتقال والاستقرار في مدن أو قرى أخرى.
وبعد وصول واستقرار السوريون في القرية تفاقمت أكثر مشاعر الكراهية ضدّهم، وذلك بسبب تزايد شواهد تهميش سكّان القرية من قبل الحكومة، الذين كانوا هم وسكّان القرى المجاورة يعانون منه منذ قرار إغلاق مناجم الفحم في المنطقة. فالمساعدات الحكومية وغير الحكومية، وتحديداً المساعدات العينية، التي كانت تصل إلى اللاجئين السوريين كانت تستفز أهالي القرية محدودي الدخل.
لذلك، لم يكن مفاجئاً تعرض اللاجئين من مختلف الفئات العمرية لمضايقات واعتداءات عنصرية، لفظية وجسدية. ولم يكن غريباً أن تتوسّع الهوّة بين السوريين والإنكليز في القرية، بالرغم من قلّة عدد العنصريين المتطاولين.
المفاجئ الجميل في القصّة هو نجاح إحدى الفتيات السوريّات في ردم الهوّة بين المجتمعين السوري والإنكليزي، وذلك بالتعاون مع صاحب حانة القرية وعاملة الإغاثة المكلفة بمساعدة السوريين المقيمين في القرية. حيث تمكّنت اللاجئة التي تحسن التعامل مع الآخرين وتتقن اللغة الإنكليزية – التي كانت متطوّعة للعمل مع عمّال الإغاثة في أحد مخيّمات اللاجئين السوريين في الشرق الأوسط – من توظيف القاعة الملحقة بالحانة واستثمار علاقات عاملة الإغاثة مع لجان خيرية بريطانية، لتنظيم فعّاليات مشتركة لتعزيز التضامن بين المجتمعين.
اطلعت على قصّة هذا النجاح من خلال فيلم بريطاني مبني على أحداث حقيقية عنوانه «The Old Oak» شاهدته قبل أسبوعين، وتذكّرته هذه الأيّام وأنا أقرأ تغريدات وتصريحات من مواطنين كويتيين حول عملية «طوفان الأقصى».
الكثير من هذه التغريدات والتصريحات متطرّفة شبيهة بالاعتداءات اللفظية التي كان يوجهها عنصريون ضد اللاجئين السوريين في القرية. تصريحات أحادية وجّهت جميع الأضواء نحو المصاعب التي كان يعانيها أهالي القرية، وتجاهلت كليّاً الظروف القاسية التي كانت تُحيط وتُساير اللاجئين، وتغافلت تماماً عن مبدأ التضامن بين البشر.
هكذا تغريدات وتصريحات متطرّفة نخرت ومازالت تنخر في النسيج الوطني، لأنها من جانب متطرّفة إلى درجة تضمّنها اتهاماً صريحاً لأصحاب الرأي المقابل بالخيانة العظمى والعمل لمصلحة دولة أجنبية، ولأنها من جانب آخر العديد منها صادر من مناصري الوحدة الوطنية، ولأنها من جانب ثالث مسكوت عنها من قبل رموز الوحدة الوطنية الذين تقاعسوا عن إظهار خبثها.
لست بصدد ترجيح رأي على آخر في شأن أحداث وتبعات عملية «طوفان الأقصى»، فحرصي في هذا المقال منصب على تجديد التحذير من استمرار حملات تخوين شرائح من المجتمع، سواء كانت أحادية أو متعدّدة الاتجاهات، التي غالباً تنتهي من دون معاقبة جل المتطاولين ومن دون محاسبة رموز الوحدة الوطنية الصامتين غالباً انتقائيّاً عن هذه الحملات الفتّاكة للنسيج الاجتماعي... «اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه».
abdnakhi@yahoo.com