مثلنا ومثل آبائنا الأولين من قبل طلوع شمس النفط في سماء الكويت كمثل رجل ضل في طريقه في ليلة شاتية حالكة السواد واشتبهت عليه الطرق ترفعه النجاد وتخفضه الوهاد لا يرى جبلاً فوقه نارُ ولا نجماً يتنوره في سراه!
وما زال يكدّ في سيره الحثيث حتى استوت في نظره الجهات الست، فالسماء أصبحت عنده أرضاً وأرضه سماء ووراءه أمامه وأمامه وراءه سواء بسواء... «أفمن يمشي مُكباً على وجهه أهدى أمّن يمشي سوياً على صراط مستقيم؟»
ذلك مثلنا ومثل آبائنا من قبلنا بين يدي هذه المدينة الحديثة التي درَّ ضرعُها وهَمَى سيلُها على العالم الإنساني بأسره.
أما الأوروبيون فقد أحسوا فنهضوا فجدّوا وصبروا، وتالياً تمتعوا بثمرات أعمالهم وها هم يتفيأون ظلالها الوارفة... وأما نحن فقد أهملنا كل هذه المقدمات الحضارية ووثبنا إلى الغاية وثباً فسقطنا سقوطاً ذريعاً؟
ومهما كان نصيب – الرعيل الأول – من الآباء والأجداد – من الجهل وبُعد المسافة بينهم وبين هذه المدينة الزائفة التي نعيشها اليوم. فقد كانوا على علاتهم أسعد منّا حالاً وأروح بالاً وأحلى عيشاً وأسدّ خطوات في سبل تدبير العيش وادارة الشأن العام! حيث كانت المعيشة – داخل السور – اجتماعية أكثر منها (انفرادية – عنصرية).
كانت الأسرة الكويتية الواحدة أشبه شيء (بالمملكة الدستورية المنظمة) يدبرها عقل واحد في أفراد متفقون في الرأي والدين والقيم والعادات... يجتمعون في البيت ثلاث مرات حول المائدة فيتعلم الصغير من الكبير، ويتلاقون بصورة أوسع في المسجد خمس مرات يحبون الله، ثم يحبون الكويت، ويوالون أمراءهم ويحترمون عاداتهم وأخلاقهم وأعرافهم ولغتهم المكونة لكيانهم السياسي والاجتماعي والثقافي ويفرون من العادات الدخيلة والمشارب الوافدة الغريبة فرارهم من الأسد.
وكان بين الصغار والكبار – معاهده رحمة واحترام – حتى إذا أصبح الصغير كبيراً وجد من صغيره ما وجد منه كبيره في سلسلة توارث متصلة في العائلة اتصالاً تعيا به الحوادث وتُهزم دونه عاديات الأيام.
فمن لنا اليوم – بعد الله – بتلك السعادة التي أثكلتنا بها المدينة الوافدة يوم غطتنا بعلومها ومخترعاتها وزخارفها الباطلة فانقلبت بها المعيشة الاجتماعية إلى انعزالية محضة، فالإخوان متناكران والزوجان متنافران والأب شقيُّ بولده والولد شقيُّ بأبيه، وكأن ساحة المنزل ساحة لتصفية الحساب لا ترى فيها سوى وجوه مقطّبة ونفوس منقبضة حتى سرى الداء إلى الأم فلم تعد تحب بناتها ولا هنّ يحببنها؟
ومن كان في شك من هذه الحقائق المُرّة فإني اكله إلى جداول القضايا في المحاكم الواقعة بين الأقارب والأرحام في القضايا المدنية والجنائية... لماذا كل هذا؟ يحدث في الأسرة؟ ولمصلحة من؟!
ففاضت علينا الأرض بما رحُبت من خيراتها – النفط – لأن الله أوحى لها... فأدخلنا أولادنا مدارس مختلفة تعلموا فيها لغات متعددة، ثم تخرجوا فيها، فهذا إنكليزي بفظاظة – الكاو بوي – وخشونته وذاك فرنسي بخلاعته واستهتاره، وثالث ألماني بخيلائه وكبريائه وجميعهم متفرنجون مشرباً ومذهباً ومطعماً وملبساً ومسكناً ولا تجد فيهم من تفرنج هِمّةً وعملاً وعلماً؟
خرجوا من المدارس بلا دين ولا وطن لأنها مادية محضة، ولأن الدين خُلُق كبقية الأخلاق لا يرسخ في النفس إلا بالممارسة والتطبيق فإن بَعُد عهده به أغفلته النفوس وأنكرته!
فقست القلوب وجمدت النفوس وفقد أطيب سلوان يستروح به الإنسان في هذه الحياة المملوءة بالمصائب والكوارث والهموم فأصبح مجتمعنا – الصغير المحافظ – مجتمعاً متعدداً وخليطاً غير متناغم فهذا ثقافته انكليزية لا يزال يرى – إنكلترا – سيدة البحار والشمس لا تغيب عن أملاكها!
وفرنسي يعبد فرنسا ويسبح بحمدها ويصفها بأنها أمة العدل والرحمة! وأن أسعد المستعمرات مستعمراتها – انظر النيجر – مثلا؟
وألماني يستظهر خطب – هتلر – ويتكهن بالغيب، ان المستقبل لألمانيا يوم يمحى اسم إنكلترا وفرنسا من الجغرافيا والتاريخ!
وكثيراً ما يقع الخلاف بينهم... ولكنهم لا يتفقون إلا في ساعة يذكرون فيها أمتهم – العربية – فتجدهم يمثلونها لأنفسهم وللناس أقبح تمثيل ويلبسونها ورجالها أثواباً مرقعة مضحكة غير مستحين من أنفسهم ولا من الناس ولا مبالين بدموع والديهم الجالسين في ناحية الدار يندبانهم ويندبان حظهم معهم، فبئس الاختلاف حين يختلفون ولا حبذا الاتفاق حين يتفقون!
فهل عرفتم سبب كآبتنا اليوم؟ وهل ستوفر لنا السيولة النقدية السعادة التي فقدناها وتزيل عنّا الكآبة؟!