قال المولي عز وجل: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾
من نعم المولى عز وجل على خلقه أن سخّر لهم الأرض وذلّلها لهم، وجعل فيها من الجبال والأنهار والبحار، وأنبع فيها من العيون، وهيأ فيها من المنافع والنعم والزروع والثمار والخيرات الكثيرة التي لا تُعد ولا تُحصى.
ومن أفضل طرق تعامل الإنسان مع الأرض هو المشي (فامشوا في مناكبها)
ظاهرة المشي:
1/ ظاهرة قرآنية وعبادية:
قال النبي الأكرم (ص):
{ما عبدالله بأفضل من المشي لبيته}
وقال عز وجل في كتابه:
{وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً}
هناك الكثير من الأعمال العبادية تعتمد على المشي مثل (الذهاب إلى بيوت الله) فهي ظاهرة قرآنية، النبي آدم (ع) مرات عديدة مشى إلى بيت الله الحرام، وكذلك الإمام الحسن (ع) حج لبيت الله الحرام 25 مرة ماشياً على قدميه.
2/ ظاهرة اجتماعية: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ)
فيها من المنافع المتعدّدة مثل (لقاءات وتعارف وفوائد و أرزاق).
3/ ظاهرة صحية: قال النبي الأكرم صلى الله عليه وآله (...خير ما تداويتم به المشي) فهي رياضية مجانية وسهلة، فالمشي يقضي على بعض الأمراض وعلاج للأرواح و تقوية للأبدان وتنمية للعقل، وكذلك يقضي على البدانة وهو علاج لمن يعاني من السمنة المفرطة ليبني جسمه بتناسق جميل.
(ويجمعنا الحسين)
وأخيراً هناك مشي آخر - المشي في أربعينية ريحانة رسول الله، الإمام الشهيد في كربلاء {الحسين} عليه السلام.
وهو يوم رد الرؤوس المقطوعة إلى أبدان الشهداء الطاهرة.
(المشاية) حراك وجداني عاطفي وحركة مسير راجلة مشياً على الأقدام في رحلة قاسية قلّ نظيرها في العالم، يقوم بها المحبّون لأهل البيت (ع) من مختلف البلدان والأجناس والأديان والأعراق والقبائل، ينطلقون من نقاط تواجدهم باتجاه سيد شباب أهل الجنة في كربلاء... فهم مجددو العزاء بالمجزرة التي أرتكبت بحقه وبحق كل من كان معه من أهل بيته وأصحابه في فاجعة الطّف عام 61 للهجرة.
قم جدّد الحزن في العشرين من صفر ففيه ردّت رؤوس الآل للحفر
- بعد أن انتهت مسير وسوق {آل البيت} أسارى و سبايا من العراق إلى الشام، وأثناء طريق العودة إلى (المدينة المنورة) في العشرين من شهر صفر، وصلوا عند مفترق الطريق بين كربلاء والمدينة المنورة، فتوجهوا إلى كربلاء...
رجعوا والهموم تعلوهم
رجعوا والأحزان ترفرف فوق رؤوسهم
رجعوا وهم يتذكرون ما فعله القتلة القساة بآل بيت الرسول عليهم السلام، رجعوا بالبكاء والعويل رجعوا ليشاهدوا ضحاياهم (الإمام الحسين وأبناءه وأقرباءه وأصحابه) رجعوا ومعهم الرؤوس المقطوعة ليدفنوها مع تلك الأبدان الطاهرة.
(ألا من ناصر ينصرنا)
الكلمات الأخيرة التي قالها شهيد كربلاء، كلمات خالدة على مر التاريخ، وهذا النداء لا تنتهي صلاحيته ولا مفعوله، بل هي صرخةٌ باقيةٌ في كل زمان ومكان، هذه الصرخة تنادي كل إنسان يحمل ضميراً في داخله من دون ملاحظة الدين أو المذهب أو العرق إنما تناشد إنسانية الإنسان في إحقاق الحق ونصرة المظلوم.
- قالت السيدة زينب (عليها السلام)
«فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا»
وقد قال الأديب الراحل / علي المتروك
مَلايِيْنُ يومَ الْأربعينَ تُجَدِّدُ
وأُخْرَى أَهازِيجَ الْوَلاءِ تُرَدِّدُ
عَجِبْتُ وقد مَرَّتْ قُرُوْنٌ عَدِيْدَةٌ ولَمّا تَزَلْ نِيرانُها تَتَوَقَّدُ
فلم ترَ البشرية مشهداً للوفاء والانتماء والولاء لشخصية عبر التاريخ مثلما كانت للإمام الحسين عليه السلام، فهذه الأمواج المليونية التي تقاطرت من كل حدب وصوب من مختلف بقاع العالم ومن شتى الشرائح والديانات لتلتقي في بقعة خالدة جمعتهم محبة الإمام الحسين (ع)، نساء وأطفال وشيبة وفتية، تتوجه الجموع المليونية إلى ضريح السبط الشهيد، الذي ضحى بنفسه وقدم أهل بيته وأصحابه صلوات الله عليهم من أجل الدين والإنسانية... ألا تستحق أن تُثمن هذه التضحيات الجسيمة التي قُدمت على رمضاء كربلاء من البشرية؟
هذا المسير والمشي تفوق على مقايس (غينس) للأرقام القياسية في العطاء والكرم، حتى أُطلق عليها بعض القنوات الإخبارية (النهر المتدفق) من كل حدب وصوب إلى كربلاء في أكبر تجمع سلمي في العالم.
ويبدو أنّه يزداد توهجاً وإقبالاً في كل عام، بالرغم من الظروف التي تمر بها الدولة المضيفة من مشاكل أمنية وصحية ومعيشية واقتصادية، إلّا أنهم استقبلوا ضيوف وزوار الإمام الحسين (ع) بكل رحابة صدر ومحبة وبالكرم وبالعطاء المنقطع النظير محبةً في محمد وآل محمد، بحيث تنتشر (المضائف) وهي مواقع بناها أصحابها من أجل استقبال الزوار فيقدّمون لهم الطعام والمبيت مجاناً، بالإضافة إلى الخدمات المتنوعة التي تقدم على قارعة الطريق، وكذلك أعدوا أكبر سفرة طعام تمتد على مدى عشرات الكيلومترات خدمةً للزوار.
هل تمكنت وكالات الإعلام العالمية من نقل هذه الأحداث بالشكل الأمثل لهذه الأمواج البشرية الماراثونية وكمية الطعام والشراب المليونية اليومية في تلك البقعة الصغيرة والتي لم ير العالم مثيلاً له؟
ختاماً:
كل الشكر لكل من شارك في تقديم جميع الخدمات المتنوعة لزوار ابي عبدالله الحسين (عليه السلام) فهذا البذل درسٌ للشعوب في العطاء، وهنيئاً لزوار الإمام الحسين الذين تحملوا العناء رغم قسوة الأجواء وكثافة الزوار فلم يشهد العالم تجمعاً مثيلاً له، حيث بلغ عدد الزوار في هذا العام 2023، حسب الاحصائيات الرسمية عدداً يفوق الـ22 مليون زائر.
السلام عليك يا أبا عبدالله ورحمته وبركاته.
اللهم أحفظ الكويت آمنة مطمئنة، والحمدلله رب العالمين.