من الخميس إلى الخميس

تجربتي مع الفساد

تصغير
تكبير

واقعٌ عشته قبل فترة طويلة، وقتها حصلتُ على معلومات عن فساد في شراء أجهزة في أحد المجالس الطبية، وبعد أن تأكدت من صحة المعلومة قمت بالتواصل مع رجل ذي قوة وأمين والذي بدوره تواصل مع قيادات الوزارة آنذاك وتم تشكيل لجنة مراجعة، اجتمعت اللجنة وراجعت طلبات الأجهزة وأوامر الشراء، وبعد اجتماعات مُطولة أكدّت اللجنة على حصول مخالفات جسيمة وكتبت تقريرها، الذي ما زلت أحتفظ بنسخة منه وللأسف لم يتم تحويل الفاسدين للنيابة، اكتفوا بإبعادهم عن مناصبهم.

أنا واثقٌ أن هذه الواقعة تكررت كثيراً لدينا في الكويت، وهو تكرار أدى إلى استمرار الفساد، فالعقوبة لا تتساوى مع الجُرم، ومتى اختّل ميزان العدل فسوف تستمر السرقات والرشاوى.

تلك الحادثة عشتها بمعاناة شخصية مع قلة الأنصار وغلبة المدافعين عن الفساد، ورغم ذلك فقد أكسبتني تلك التجربة خبرة بأدوات الفساد في الكويت، فهناك دائماً فاسدون وبيئة فساد وأصحاب نفوذ من وراء الحجاب.

فالفاسدون يكيّفون القرار الحكومي لصالح أهل النفوذ ويقبضون ثمن فسادهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وبيئة الفساد، وهي مكونة من أهل المصالح الوظيفية، تلك البيئة يكون دورها مُقتصراً على الدفاع عن رؤسائهم الفاسدين؛ ومعاداة المُصلحين؛ وكتابة الرسائل للمسؤولين والنشر في الصحف؛ واستخدام أدوات التواصل الاجتماعي،بل والتواصل مع أعضاء مجلس الأمة من أجل توجيه أسئلة تشكيك بالصالحين عوضاً عن الفاسدين، كل ذلك من أجل دعم الفساد والتشهير بالصالحين، أمّا أهل النفوذ فهم يضمنون للفاسدين تخفيف العقوبات في حالة كشف المستور والتواصل مع القيادات لتبرير أعمال المرتشين، (وهذوله) عيالنا، وعفا الله عما سلف.

إن الفساد المالي لدينا قد استقطب الاهتمام الأكبر نظراً إلى هوية الأشخاص المتورطين وحجم المبالغ الكبيرة وقد تأثرت نزاهة الكويت المالية في العديد من المؤسسات والمجالات التي تشمل التأمينات الاجتماعية، وصندوق الجيش والمشتريات الدفاعية، و«ضيافة الداخلية»، وبعض الوزارات الحكومية، والرياضة، ومؤسسة الموانئ، والبلديات، والصناعات البتروكيميائية، والنفط،،وغيرها.

وما يزيد الطين بلّة أن القضايا القانونية لم تكشف عن المتورطين الفعليين بملفات الفساد آنذاك، وهذا ما دفع الكثير من الكويتيين للشعور بعدم الرضا، والسبب ليس غياب مؤسسات الإشراف والرقابة. فثمة اثنتا عشرة جهة «تكافح» الفساد، غير أن عدداً كبيراً منها كان يفتقر إلى الفاعلية أو يعاني من العجز، وتواجه مكافحة الفساد عراقيل تتمثل في تداخل الهيئات، والنقص في القوانين، والأداء الضعيف القائم على غياب الرؤية الشاملة لمحاربة الفساد، هذا كله كان أحد سمات الفساد في الحكومات القديمة.

اليوم تغيرت الصورة، كما أظن وأتمنى، وبدأت القيادات الكبرى لدينا تُدرك ضرر الفساد المالي على برامج التنمية، والعلاقة بين الفساد وما شهدته الكويت من أزمات متنوعة كان الفساد هو المُحرّك الأول لها.

لقد تعلمتُ من تلك التجربة الصعبة ألا أثق بأدوات التواصل الاجتماعي بل وأحياناً أشعر أن الذين تتم مهاجمتهم والتشهير بهم قد يكونون هم المُصلحين، فالفاسدون يسعون دائماً إلى تشكيك الرأي العام بالصالحين، ومن خلال عشرات من الأسماء الوهمية وغيرها يحاولون خلق أجواء ضبابية قد تُخفي أعمالهم المُشينة.

الحلّ من أجل محُاربة تلك الحالة الضبابية يأتي من باب الحُكم الرشيد ويأتي من باب القضاء النزيه، فالحكم الرشيد يعني حسن اختيار القادة ومحاسبتهم، والقضاء يعني سرعة إبرام العدل وإعطاء الناس حقوقهم والحفاظ على سمعتهم.

لا شك أن الفساد تجدُه في كل زمان ومكان، فالشر مرآة الجانب المظلم للإنسان كما أن الخير والعدل هو الجانب المشرق على هذه الأرض والصراع بينهما مستمر ولن يتوقف، وكلما نجح الناس بتوظيف القانون ونشر العدل كلما قويت أدوات الإصلاح وتحسّنت حياة الناس وعمّ الخير والعكس صحيح.

إن أيّ مراقبٍ يمكنه بسهولة الربط بين انتشار الفساد وبين تخلف الأمم، فالدول لا تتقدم إلا إذا نجحت في تغليب العدل ونشر الحرية والمساواة، وأما الدول المتخلفة والضعيفة فهي مُنغمسة في بيئة الفساد، تلك البيئة التي لا تقنع عاقلاً ولا تغير واقعاً.

مَن يبحث عن التقدم والرقي فعليه محاصرة الفساد والاعتماد على المصلحين أهل القوة والأمانة، بهذا فقط تتطور الدول وتتقدم دون الحاجة الى قصائد المديح ولا أصوات المطربين.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي