شاهدنا العديد من صور التهريج النيابي في مجالس الأمة السابقة، ولكن التهريج النيابي في المجلس الحالي مختلف. مُقلق تارة ومُرعب تارة أخرى، بسبب التوافق النيابي تارة والإجماع تارة أخرى في مشاهد التهريج المتزايد. وكعادتي، ومن باب التوضيح، سأكتفي باستعراض بعض هذه المشاهد.
باكورة التهريج النيابي في المجلس الحالي، كانت عندما عقد النوّاب اجتماعهم التنسيقي الأول في ديوان النائب الإسلامي محمد هايف. فكيف وافق أعضاء يتبنّون تعزيز الهوية الدستورية المدنية للدولة، ومعهم نوّاب انتخبوا لكسر القيود المفروضة على حرّية التعبير، على أن يكون اجتماعهم التنسيقي الأهم في ديوان نائب يتبنّى أسلمة القوانين ومعروف بالتشدّد تجاه حرية التعبير؟
والتهريج الملحق بهذا التهريج الأوّل، هو الادعاء أن لا قيمة ولا أثر لمكان الاجتماع على الخارطة التشريعية، وهذا مخالف لحقيقة معروفة، وهي صعوبة انعقاد الاجتماع ذاته في دواوين نوّاب آخرين، واستحالة انعقاده في ديوان أحد النوّاب البارزين.
التهريج النيابي الثاني، كان في إقرار المجلس بالإجماع قانون إنشاء المدن الإسكانية، قانون خصخصة الرعاية السكنية والخدمات البلدية في المدن الإسكانية المستقبليّة. فهذا التهريج سينجلي عندما نكتشف أن المجلس غيّب الشعب عن خيار بديل يُحصّن مكتسب الشعب في رعاية سكنية لائقة من الحكومة، اقترحه خمسة نوّاب، يقضي بأن تكون الهيئة العامة للاستثمار هي الشريك المستثمر عوضاً عن القطاع الخاص المحلّي والخارجي. وارتباط التهريجين الأول والثاني يسطع عندما نعلم أن المجلس لم يضمّن القانون ضوابط تحفظ رفاهية المواطن، ولكنه حرص على أن تكون الأنظمة الأساسية لشركات إنشاء المدن الإسكانية متوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية.
وبالنسبة للتهريج النيابي الثالث، فله مشاهد عدّة، اختصرها النائب حمد العليان في تصريحه بعد المداولة الثانية لقانون «المفوّضية العامة للانتخابات» الذي أكّد فيه أن القانون المقر مخالف للقانون الذي تقدّم به 30 نائباً ومختلف تماماً عن المقدّم من «مشروع الشباب الإصلاحي».
وهذا التهريج أيضاً مرتبط بالتهريج الأول، من خلال الفقرة الثانية من المادة (16) من القانون، التي تشترط لممارسة الحق في الانتخاب والترشيح الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية. حيث لجأ النوّاب الذين عجزوا عن شطبها إلى تنقيحها بضم الرجال وإضافة أحكام الدستور والقانون في الشرط. وبان التهريج أكثر عندما برّر عدد من النوّاب عدم شطب الفقرة لكونها توجيهية غير ملزمة!
وأما التهريج النيابي الرابع، فتمثّل في التنازل الوديع من قِبل العديد من النوّاب عن مطالباتهم الإصلاحية الجوهرية عند إقرار تعديل قانون المحكمة الدستورية. حيث اكتفى المجلس بإقرار تعديل يكون بموجبه البت في الطعون على مرسومي الحل والدعوة قبل إعلان نتيجة الانتخابات، من دون معالجة محكمة لاحتمالية تجاوز فترة الشهرين الدستورية لانتخاب المجلس الجديد. فضلاً عن تناسي الكثير من النوّاب مطالبات كانت ضرورية لازمة حتى الأمس القريب، من قبيل عدم اختصاص المحكمة الدستورية في النظر في مراسيم حل مجلس الأمّة ومراسيم الدعوة للانتخابات، ومسألة تغيير تشكيل المحكمة الدستورية، من حيث زيادة عدد أعضائها، وتغيير طريقة أو جهة اختيارهم، والسماح لغير القضاة بالعضوية فيها.
وبالنسبة للتهريج الخامس، فهو في مساعي ترسيخ الهوية الدستورية المدنية والتصدّي للبصمة الدينية في القوانين والتشريعات التي أقرّت والمتوقّع إقرارها في المجلس الحالي. فهي دون المستوى المطلوب من حيث التحصين الاستباقي، كعقد ندوات توعوية قبل مداولة القوانين في اللجان والبرلمان، ومن حيث التكتيكات والمناورات الدفاعية، كالتلويح بمواقف عقابية في ملفات أخرى، ومن حيث الجهود اللاحقة للحصول على مكتسبات تشريعية تعادل وتعوّض الخسائر المناظرة.
بناء على ما سبق، ونظراً لخلو قانون المحكمة الدستورية من نص «أحكام الشريعة الإسلامية»، لا أستبعد أن يقر المجلس بأغلبية كاسحة في دور الانعقاد المقبل قانوناً يشترط على المحكمة الدستورية لممارسة اختصاصاتها الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية، بذريعة أنه نص توجيهي غير ملزم...
اللهمّ أرنا الحقّ حقاً وارزقنا اتباعه.abdnakhi@yahoo.com