إنّ الله - سبحانه وتعالى - فطرَ الإنسانَ على التساؤل، والتطلع إلى الاكتشاف، وذلك لأن الجهل يخيفه ويربكه يريد أن يعرف كل شيء يحيط به، كما فطره على التطلع والتشوق إلى معرفة نفسه واكتشاف مكانه ومركزه في الكون، وقد وجد أن ذلك غير ممكن من غير مزاولة التقييم المستمر لكل ما حوله، والتقييم لن يتم من غير اللجوء إلى المقارنة.
ومن منا لم يسمع في المجالس من يقارن نفسه بآخر، بالمقارنة تبرز قيمة كل شيء من خلال النظر إليه على أنه جزء من منظومة متجانسة المفردات والأنساق. ونظراً لأهمية المقارنة في تحسين درجة الإدراك وإنضاج الوعي، فقد عظّم أصحاب التخصصات المعرفية، خصوصاً الإنسانية منها المقارنة تعظيماً فخماً، وصار لدينا مجموعة كبيرة من العلوم التي تعتمد المقارنة أساساً لها، وذلك مثل (علم التاريخ المقارن) - (علم النفس المقارن) - (علم الأديان المقارن) - (الفقه المقارن) - (علم اللغة المقارن) - (علم الثقافات المقارن) - (علم الاجتماع المقارن) و(التربية المقارن)...
إنّ المقارنة هي بنت الاختلاف، وبما أن الاختلاف يشكّل طابعاً عاماً للبشرية فمن الطبيعي أن نجدها في كل مكان.
للمقارنة هدفان جوهريان، الأول: فهم ما نشعر بغموضه من أوضاع وأحوال، والثاني: التفوق على الخصوم والمنافسين، وهذا النوع من المقارنة يحتاج حتى يؤتي ثماره أن يعرف المرء نقاط قوته وتفوقه على نحو جيد، كما أن عليه أن يعرف الفرص المتاحة له، والآفاق التي تنتظره. مع الإيمان الجازم بأن نتائج أي مقارنة نقوم بها ظنية وغير نهائية، وذلك بسبب صعوبة الإحاطة بكل خصائص الأشياء التي نقارن بينها وعدم معرفتنا الدقيقة بالأوضاع والظروف المحيطة بكل منها، وهذه نقطة مهمة، فالاجتهادي يجب أن يظل اجتهادياً.
على الرغم من أن المقارنة كثيراً ما تجلب الإحباط، والتوسع فيها على كل حال ينبع من الحيرة والارتباك والغموض، إلا أننا نعتقد ما يأتي منها في سياق إيجابي يكون مفيداً جداً، أما إذا جاء في سياق سلبي، كحالة تأنيب للذات أو للآخرين فإن نتائجها تكون سلبية، ولهذا علينا الإقلال منها قدر الإمكان، وإن أردنا أن نقارن بين شخصين أو شيئين، فإن علينا أخذ الفوارق بعين الاعتبار، ولنحذر من المقارنة السلبية بين الأبناء وزملاء العمل والأقرباء والأصدقاء، فهذه تبذر العداوة بينهم، وقلما تأتي بخير، ولهذا علينا الإعراض عنها بالكلية.
في الواقع من السهل علينا دائماً أن نعتمد في مقارناتنا المعطيات والعناصر المادية، ونهمل المشاعر والأمور المعنوية مع أنها قد تكون أهم، فالإنسان حين يقارن نفسه بجاره فقد ينظر إلى مساحة بيته والطعام الذي يأكله والسيارة التي يركبها، وبذلك يشعر الجار بتفوقه عليك، وأنت قد تدخل في باب الحسد، وكثيراً ما يحدث ذلك لأن الإنسان يهتم بالأشياء المادية ويهمل بعض العناصر المعنوية مثل تآلف أسرته، واجتماع شملهم، وتفوق أبنائه، وكل هذه العناصر تجلب ثناء الناس وحسن ظنهم به... وهذه الأمور تؤثر في سعادة الناس أكثر بكثير من الأمور المادية، فينبغي علينا أن نأخذها بعين الاعتبار حتى لا نضع أنفسنا في موقف حرج.
M.alwohaib@gmail.com
mona_alwohaib@