خُلق الإنسانُ مستقيماً على الفطرة، سعيداً بطبيعته البشرية... وإنما بعض الناس يجلب بنفسه الشقاء إلى نفسه، فتجده مثلاً يشتد طمعه في المال والشرف فإذا تعذّر عليه مطمعه طال بكاؤه واستطال عناؤه، لأنه يعتقد أن بلوغ الآمال في هذه الحياة القصيرة حقٌ من حقوقه المدنية، فإذا أخطأ سهمه والتوى على غرضه أنّ أنين الثكلى وشكا شكاية المظلوم !
ومع ذلك يبالغ في حُسن ظنه بالأيام، فإذا مالَ به الزمانُ في محبوب لديه - من مال أو ولد - فاجأه من ذلك ما لم يكن يقدّر وقوعه فناله من الهم والحزن والألم ما لم يكن يناله لو خَبَرَ الدهر، فواجهه بالقدر وعارك الأيام عِلماً وتجربةً وتوكلاً على الله.
وعلم أن جميع ما في يد الإنسان عاريةٌ مستردة ووديعة إلى أجل موسوم، وأن هذا المُلك الذي يزعمه الناس لأنفسهم خدعة من خدع النفوس الضعيفة ووهمُّ من أوهامها، وعليه تجد الحاسد يتألّم كلما سمع أو رأى محسوداً، والشارب للخمر يتألّم كلما أفاق من سكره، والطماع يتألّم كلما خاب ثناه في مطمعه... والحقود يتألّم كلّما تذكّر أنه عاجز عن الانتقام من عدوه... وهذا حال أكثر الناس ممن جُعل الفقر بين أعينهم، فحياتهم شقاء في شقاء، أما الفقير الذي رُزق كفافاً ورضي به فهو قانع في رزقه البسيط، لا يحزن على ما فاته من الدنيا ولا تذهب نفسه عليه حسرات فمن أي باب يخلص الشقاء إلى قلبه؟ خصوصاً أنه إذا نظر إلى الأغنياء في أثاثهم وقصورهم ومراكبهم وخدمهم ومآكلهم ومشاربهم فإنه لا يجد أن أصحابها قد نالوا من السعادة بوجدانها أكثر مما نال هو بفقدانها.
وهذه المطاعم المنتشرة إن كان الغرض منها الامتلاء فإنه لا يذكر أنه بات ليله طاوياً... وإن كان الغرض منها قضاء شهوة النفس وقتل الوقت، فالفقير لا يأكل إلا إذا جاع فيجد لكل ما يدخل جوفه لذة لا يحسب أن في شهوات الطعام لذةً تفضلها.
أما القصور التي للأغنياء فلدى الفقير كوخ صغير لا يشعر أنه ضيق عليه وزوجته وولده لأن صدره منشرح بالإيمان، وجوارحه مستقيمة على الإسلام، وإن كان لا بد من امتاع النظر بالمناظر الجميلة فيكفيه أن يجلس على شاطئ البحر (السيف) بفانيلة ووزار ليرى زرقة السماء والأشعة البيضاء وقرص الشمس حين يشرق كأنه ترس من الذهب أو كتلة من اللهب فتتكامل الصورة مع ساعات الفجر الأولى مع هدوء الطبيعة وسكونها.
وكل كويتي له من التاريخ أو لآبائه وأجداده في البحر ما يشعر معه بذلك الارتباط، ثلاثي الأبعاد ما بين أرض وبحر وسماء، في فضاء واسع عاشه أهل الكويت قبل النفط يسرحون فيه بلا قيود ولا حدود إلا قيم وثوابت المجتمع في مقابل ذلك الغني التاجر الذي لا يتحرّك ولا يسكن إلا وعليه من الإحداق نطاق ومن الأرصاد أغلال وأطواق، بل حتى بطاقة الصرف الآلي عليه فيها رقابة من أين سحب، وكم سحب، ولأي جهة كان الحساب؟ كما أنه لا يخرج من منزله إلّا إذا وقف أمام المرآة ساعة يؤلف فيها من حقيقته وخياله ثم يطيل التفكر بما يقوله الناس عنه؟ حتى إذا استوثق من نفسه بذلك خرج إلى الناس يمشي بينهم مِشية يحرص فيها على الشكل والمراسم التي استقر رأيه عليها فلا يطلق لجسمه الحرية في الحركة والالتفاف (كالرجل الآلي)، كما لا يسمح لفكره بحرية تقليب الأمور والتفكر فيها مخافة أن يغفل عن إشارات السلام ومظاهر التبجيل والإكرام!
وأما الفقير فإنه يشعر بأن الناس لا ينهضون إجلالاً له إذا رأوه ولا يمدون أعناقهم نحوه إذا مرّ بهم، وهذا الفرق بينه وبين التاجر لا قيمة له عنده ولا أثر له في نفسه ولا يعنيه من أمرهم إذا قاموا أو قعدوا أو طاروا في الهواء أو غاصوا تحت الماء!
ما دام لا علاقة بينه وبينهم وما دام لا ينظر إليهم إلا بالعين التي ينظر بها الإنسان إلى الصور المتحركة.
ولقد كان هذا اليقين أكبر سبب في عزاء الفقير وراحة نفسه من الهموم والأحزان... إنه الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره فصغُرت الدنيا في عينه وصغُر شأنها عنده فإنه لا يفرح بخيرها ولا يحزن لشرها فما نزلت به ضائقة ولا هبّت عليه عاصفة مما يخبئه القدر إلّا وانتزعه الإيمان بالقدر من بين مخالبها وهوّنها عليه حتى لا يكاد يشعر بوقعها... وكيف يتألّم لمصاب يعلم أنه مقدورٌ لا مفرّ منه وأنه مأجور عليه على قدر صبره ورضاه عن ربه!
وهذا ما جعل الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، يتعجّب فقال:
(عجباً لأمر المؤمن إنّ أمره كله له خير، إن أصابته نعماء شكرَ فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبرَ فكان خيراً له وليس ذلك إلّا للمؤمن)!