No Script

من الخميس إلى الخميس

مدرج الفساد

تصغير
تكبير

أكتب للصحافة منذ ثلاثين عاماً، ومنذ كنت أبعث المقال باليد إلى أن أصبح يُبعث بالفاكس ثم بالإيميل، وأنا أحاول رصد ردة فعل أصدقائي وزملائي على ما أكتبه، لاسيما في ما يتعلق بالوضع الداخلي.

في السنوات الأخيرة أصبح «الواتس أب» وسيلتي السريعة لبعث المقال للأصدقاء والزملاء، وتلقّي الرد عليه سريعاً، ولأني أهوى الإحصاء فقد مارسته على تعليقات زملائي وأصدقائي وانتهيت إلى بعض الاستنتاجات.

في حقبة التسعينات، ما بعد طامّة غزو الكويت، كان المواطن الكويتي مليئاً بالحسرة من الخذلان الذي صاحب غزو بلاده، لكن مشاعر الوطنية لديه كانت تزداد عمقاً نصحبها رغبة التحدي وتفاؤل بالمستقبل، كان وهج الإصلاح يتحرّك بأسرع من قدرات الفساد، من أجل ذلك إعادة بناء الكويت بسواعد شابّة راغبة في التغيير، كل مقالاتنا كانت في تلك الحقبة تدور حول الرد على أعدائنا والتصدي لهم وتشجيع روح البناء القوية، وكانت ردود الناس حولنا تسير معنا، كان التناغم صفة ما نكتبه وما نسمعه.

في حقبة الألفين، وفي أول خمس سنوات فيها بدا واضحاً أن روح الفساد مازالت تتنفس تحت تراب الوطن، بدأت التجمعات القديمة تعيد إصلاح شباكها، وبدأ الصراع يعلو رويداً رويداً، كان الفساد كعادته يحمل أكثر من رأس، وفي كل رأس عقل مبرمج، وبدأت بذرات الفتن الساكنة تتفتح، يومها انشغلنا ككُتّاب في صّد تلك المحاولات وتحذير الشعب من طابور يسعى إلى تسخير مقدرات الوطن كله لصالحه.

وقتها ربح المصلحون معارك وخسروا أخرى لكن روح التفاؤل لم تضعف يوماً.

وفي الخمس سنوات التالية، أي بعد خمس عشرة سنة من الغزو، كان المجتمع الكويتي على باب نسيان محنة الغزو وتلاحمه فيها، في تلك الأعوام اختار الفساد طريقه في ضرب بنية الوحدة، فبدأت محاولات تقسيم المجتمع طائفياً واجتماعياً، وبدأ الصراع بين مكونات المجتمع، فكنا نكتب بحذر وبعموميات لا تُسمن ولا تغني من جوع، فالصراع الاجتماعي والطائفي هو أكثر الصراعات قسوة على أي مجتمع.

يومها انشغل القليل من الكتاب بالنصائح العامة وانشغل الكثيرون بالاصطفاف والدفاع عن النفس.

كانت معظم تعليقات الأصدقاء والزملاء منشغلة بالصراع أيضاً وكأن هناك إرادة أقوى تُملى على الكويتيين جميعاً، أما الفساد فقد نجح في تطوير آلياته وتمكّن من القفز فوق الخلافات التي أجّجها، القفز نحو مصادر الدخل للفوز بها.

وما إن انتهت العشرة الأولى للقرن الحادي والعشرين حتى بدا واضحا أن الفساد نجح في تأصيل الخلاف في المجتمع الكويتي وبدأت شعلة التفاؤل تَبهَت، فكانت معظم كتاباتنا في البداية لإعادة روح التفاؤل، أمّا المعلقون من معارفنا فكان رأيهم منقسماً بين مشجع ويائس من الإصلاح.

ورغم استمرار الكثيرين من أصحاب القلم بتشجيع القيم ونشر روح المحبة إلا أن تعليقات الجمهور في العشرة الثانية للقرن الحالي كانت تملؤها المرارة والإحباط، لم تعد روح التفاؤل موجودة بيننا، كأن هناك من خنقها وأعاد فرز أبناء الوطن إلى مجاميع تتصارع في ما بينها.

ورغم أنني ما زلت متفائلاً إلا أنني أشعر بأن هناك قوة ما تريد نشر الإحباط، وتشجع كسر القوانين، ونشر الواسطة، وحرق الطبقة المتوسطة بغلو الأسعار، والتفرقة بين أبناء الشعب بالمزايا والمعاشات وتشجيع الفاسدين وإبعاد الشرفاء، وتجنيس من لا يستحق على حساب من يستحق، وحصر المناقصات على مجاميع معينة واعتبار العمل الحكومي إما بطالة وإما تخليص مصالح.

إن أكثر ما يضر الأمم فقدان أهلها روح الإصلاح وانتشار الإحباط واليأس.

اليوم نحن أحوج ما نكون للعودة إلى الشعب، بحاجة إلى الاستماع لرأيه في إدارة البلد والمحافظة على المسار الديموقراطي وتعزيزه.

الدول لا تُبنى بالأغاني وكلمات المجاملة، الدول تُبنى بسواعد أبنائها الذين يملؤهم الأمل.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي