اجترحن «المعجزات» لعائلاتهنّ بمواجهة الأزمات
الأمّ في لبنان... من الحاجة إلى الاختراع
- أمهاتٌ كافحنَ الانهيار من داخل جدران منازلهنّ وخارجها بأعمال أبقتْ عائلاتهنّ... صامدة
- بائعة خضار جوالة على عربة خشبية وخبّازة في فرن للمناقيش
- عاملة ديلفري لصالح أحد محلات بيع الأحذية... وسائقة تاكسي
- أمهات انتقلن للعمل في الخليج بعيداً عن عائلاتهن لتأمين متطلباتها
- نساءٌ طوّرن خبرات اكتسبنها من الأمهات والجَدات وحوّلن عاداتٍ قديمة من صلب التراث اللبناني مصادر رزق متجدّدة ومبتكرة
يطلّ عيد الأم حزيناً، كئيباً، قاتماً ومثقَلاً بهمومٍ لا حدّ لها على أمهات لبنان اللواتي يكافحن بـ «اللحم الحي» لحفظ تَماسُك عائلاتهن وتأمين قوت يومها في مواجهة أزماتٍ لا ترحم، لم تتعوّدها البيوتات التي هجرتْها الأحلامُ وغادرتْها الطمأنينةُ وسكنَها القلقُ ويحوم حولها اليأسُ ما جعل «سيداتها» أمام إختباراتٍ قاسية.
وإذا كان لعيد الأم في العالم نكهة الإمتنان والتقدير والحبّ لتلك التي «تهزّ العالم بيسارها»، ففي لبنان تحمل هذه المناسبة معانٍ إستثنائيةً في زمنٍ إستثنائي وفي مواجهةِ تحديات إستثنائية. فأمهات الوطن المنكوب يتحدّين البؤسَ واليأسَ بفائضٍ من التضحيات و... برأس مرفوع.
منذ سنة إلى اليوم تغيّرتْ أحوالُ الأمهات في لبنان بعدما بلغَ الإنهيارُ المالي ثلاثة أضعاف ما كان عليه العام الماضي وفق الإحصاءات وتفاقمتْ أسعارُ السلع والخدمات ثلاث مرات، تاركةً الأمهات في دوامة غلاءٍ فاحشٍ سرقَ منهنّ كل قدرةٍ على التدبير واجتراح الحلول. إلا أن الأمهات لم يستسلمن مطلقاً، فانحنين أمام العاصفة العاتية التي تلاعبتْ بمصيرهن ومصير عائلاتهن لكنها لم تنتزعهنّ من جذورهن أو تكسر ظهورهن، تحايلن عليها بما يملكنه من قلبٍ وعزمٍ وإستطعن الصمودَ في وجهها ولو بصعوبة.
معاندة أمهاتِ لبنان «السقوط» لم تأتي من عدم، فهن بنات وحفيدات أجيال شهدت حروباً ومحناً ومجاعات، وإن تكن عاشت ازدهاراً وإستقراراً لفترات وجيزة. تخمّرتْ تلك التجارب في لا وعيهن وأثمرتْ إرادةً صلبةً يغذّيها إنفتاحٌ وعلمٌ ومواكبةٌ للعصر جعلتْ هؤلاء النساء قادرات على مواجهة المَصائب والشدائد والخروج بحلول.
رباتُ بيوتٍ إستجمعن كل ما تمنحهنّ إياه الأمومة من حبٍّ وعطاء ليكافحن من داخل جدران منازلهن أو من خارجها للصمود في مسيرة يومية ملؤها الأشواك و... الألغام.
كفاح أمهات
في الأرياف ومناطق الأطراف كما في المدن، في البيئات المعدَمة كما المتوسطة وأحياناً الميسورة، إنتفضت الأمهات في لبنان وإرتدين ثوب العمل والإنجاز لتأمين دخلٍ إضافي وأحياناً وحيدٍ للعائلة. وليست هذه صُوَراً شعريةً أو تمجيداً طوباوياً بل هي حقائق يمكن لمسها في مجالات عدة. فكل أم في ما تتقنه من مهاراتٍ تحوّلت ربةَ عمل صغيرة تلقى الدعم أحياناً من جهاتٍ مُساعِدة أو تتّكل على نفسها في أحيان كثيرة.
في الأرياف عملتْ المؤسساتُ الدولية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر USAID أو UN Women أو وكالة التعاون الدولي لاتحاد بلديات السويد ومعها منظمات نسائية محلية، على مساعدة الأمهات في هذه المناطق وتمكينهنّ ليستطعن المساهمة في إعالة عائلاتهن في هذه الظروف الصعبة. هنا لم تحتج الأمهات إلى تَعَلُّم مهاراتٍ تقنية أو علمية بل كان يكفي أن يطوّرن خبرات اكتسبنها من الأمهات والجَدات لتحويل عاداتٍ قديمة من صلب التراث اللبناني إلى مصادر رزق متجدّدة ومبتكرة.
ففي منطقة عكار الشمالية الريفية مثلاً وبفضل مشروع «إعادة التدوير» Upcycling الذي أطلقتْه مبادرة «ريسلوغ» لتمكين النساء ومساعدتهنّ على الإبتكار والحصول على مدخول، تمكنت نساء بلدات عكارية عدة من إستخدام مواد أولية معاد تدويرها مثل أكياس النايلون أو أحد أنواع القصَب الذي ينمو على حفافي السواقي أو منتجات محلية للعمل عليها وتقديمها في شكل فني وعملي لافت.
وتقول ثريا حمود وهي المسؤولة عن المشروع لـ «الراي» إن «مشاريع التدوير على إختلاف مكوّناتها لم تقتصر على حِرَفٍ محلية بل تم تطوير الأفكار والمنتجات لتخرج بأفضل صورة، كما جرى تدريبُ النساء وإعطائهن المعرفة والوسائل لإنجاز عملهن وتحسين منتجهنّ ومن ثم مساعدتهنّ في التسويق له وتصريفه في عكار أو خارجها لضمان الحصول على أفضل مدخول». وهكذا تحوّلت حِرَفٌ قديمة كالكروشيه والرسم على الخزف وصناعة السِلال إلى أعمال تواكب العصر وتمنح الأمهات الفرص للعمل من مناطقهن ومن داخل بيوتهن بشكل محترف يمكن بيعه بسهولة وجني المكاسب المالية منه.
من البيت الى العالم
لم تجلس الأمّ اللبنانية ساكنةً في بيتها في إنتظار الفرَج بل تجرأتْ وسعتْ وإنطلقتْ نحو الجمعيات والمنظمات العالمية لتطلب «صنارة لا سمكة». لا تريد عوناً مادياً أو صندوقَ إعاشة بل طلبتْ إكتسابَ المعرفة التي تؤهلها للعمل والإنتاج.
في البقاع إنضوين تحت لواء التعاونيات الزراعية، وبات العملُ الذي كنّ يَقمن به في الحقل بإطارٍ صغير عملاً مبرمَجاً يستفيد من برامج دعم المجتمع المحلي في وكالة USAID وغيرها، ليكتسبن عبره التدريبَ والخبرةَ والمعدات لابتكار نوعية عالية من المنتجات والوصول إلى وصفات موحدة لتقديم أصناف ذات معايير ثابتة يمكن تسويقها في الأسواق المحلية والعالمية. وبهذا إستطاعتْ الأمهات تحويل واقعهن الزراعي البسيط إلى صناعة ذات مستوى قادر على المنافسة.
حتى الأمهات اللواتي لم يسعفهن الحظ في نيل مساعداتٍ من جهات مانحة إتكلن على أنفسهن وعلى ما توارثْنه من مهارات، فتحوّلت المؤونة اللبنانية التي كانت تُصنع في كل بيت إلى مصدرٍ للدخل يعينهنّ في إعالة عائلاتهن.
الأمهات الشابات اللواتي كن قد نسين هذه العادات القديمة عدنَ إلى صناعة المربّيات والمخلّلات وكل أنواع المونة، وإبتكرن طرقاً جديدة جذابة لتقديمها حتى تنال رضى الجيل الجديد. أما الأكبر سناً فاعتمدن على مهارتهن وخبرتهن لتقديم النوعية التي يحنّ إليها الناسُ وما عادوا يجدون إلا نسَخاً مشوّهة عنها في محال السوبرماركت والمصانع التجارية.
وإذا كانت النساءُ في الأرياف بَرَعْنَ في مهاراتٍ يطغى عليها الطابعُ الزراعي، ففي المدن وضواحيها سعتْ الأمهاتُ الغارقاتُ تحت وطأة الأزمات المتلاحقة الى استغلال أي مهارةٍ يدوية يُجِدْنها لتحويلها إلى مَصدر للرزق.
حِرَفٌ يدوية كثيرة وإبتكاراتٌ فنية تحوّلت بفضل مثابرةِ الأمهات وجهدهنّ وسهرهنّ إلى أعمالٍ فنية تلقى رواجاً في الداخل والخارج ولا سيما عبر صفحاتهنّ على مواقع التواصل الإجتماعي. وبفضل براعة الكثيرات وإصرارهن على المضي قدماً، إستطعن أن يصنعن من هذه الأعمال أسماء تجارية ناجحة رغم الأزمة التي تعصف ببلدهن.
... ميرنا حوّلت عشقَها للروائح الذكية وشغفَها بمزجِ العطور وإبتكار روائح جديدة إلى شركة ناشئة تعنى بصناعة عطور محلية ذات إيحاءات عالمية، وصارت قادرةً على منافسة أجمل العطور العالمية بصناعةٍ لبنانيةٍ تبقى أسعارُها في متناول الجميع.
ريمي حلو إستغلت حبَّها لصناعة المخبوزات والحلويات وأصناف السكاكر والشوكولا وحوّلته إلى عمل منزلي ناجح تدعم به عائلتها وتقف إلى جانب زوجها الذي يعمل خارج البلاد.
ندى طعمة جبلت بقايا الزجاج المكسور، لوّنتْه وصار أعمالاً فنيةً في غاية الروعة إكتسبت شهرة واسعة، ومثلها حنان قدوم التي عملت على إبتكار حقائب يدٍ من مواد بسيطة وبعملٍ يدوي متقَن ومُبْدِع حاكَ قطعاً باتت تباع في أرجاء العالم.
أشغال يدوية على أنواعها، وكل ما يخطر في البال من إبتكاراتٍ حوّلتْها أمهات لبنان إلى طرق لمواجهة الأزمة، وما عادت أعمالهن محصورةً في الحي ومع المعارف والأصدقاء، بل تمكنّ بما يملكنه من إنفتاح ومعرفة من إيصالها إلى خارج حدود الوطن في ظل ركود إقتصادي يقبض على لبنان.
كارولين شبطيني جعلت إسمَها يدخل موسوعة غينيس ثلاث مرات بعدما حوّلت أغطية القناني البلاستيكية إلى أعمال فنية ضخمة تجاوزتْ بها كل ما أُنجز سابقاً في هذا المجال، مثل شجرة الميلاد وعلَم لبنان وهلال شهر رمضان.
في المدن، لم تتردّد أمهات كثيرات في إقتحام مجالات لم يكن يوماً يجرأن على مجرد التفكير بها. لطيفة أحمد صارت بائعة خضار جوالة على عربة خشبية في مشهدٍ غريب في لبنان، وسلام حداد خبّازة في فرن للمناقيش، وهالة عاملة ديلفري لصالح أحد محلات بيع الأحذية، فيما تعمل إحدى السيدات التي لم تشأ ذكر إسمها على سيارة تاكسي...
كلهن يجاهدن في العلن أو في السرّ وخلف جدران البيت، يجترحن معجزات صامتة كل يوم لتأمين قوت أطفالهن. «أتحايل على اللحم» تقول إحداهن: «أضيف إليه لبّ الخبز المغمس بالماء لأزيد الكمية، وأستحصل من محل الدجاج على ما لا يباع عنده من أرجل ورقاب لأحولها إلى حساء مغذٍّ...». أم أخرى تمزج الزعتر مع الماء لتجعله لفّة خبز لابنها يحملها معه إلى المدرسة... «أفتش عن الخضار والفاكهة الذابلة التي تباع بربع ثمنها وأتحايل في تحويلها إلى أطباق لا يشعر معها أولادي بأنهم محرومون منها...».
تجربة إلسي مختلفة، فهي التي حظيت بفرصةِ عملٍ في إحدى دول الخليج العربي، تركت خلفها زوجاً وولدين وذهبت وحيدةً لتعيش بعيدةً عن عائلتها في الجسد إنما قريبة منها في السعي والكفاح لتأمين كل متطلباتها في وقتٍ نسفت الأزمةُ ما تعودت عليه من نمَط عيش. «أبكي كل يوم أنا فيه بعيدة عن عائلتي لكنني أستمدّ الشجاعة من وجه أطفالي لأستمرّ».
لم تستسلم الأمهات رغم معاناةٍ قد تسحق الجبال، وفي بلدٍ إزدادت فيه نسبةُ حوادث الإنتحار بعدما عجز البعض عن مواجهة الأزمة. لم تُسجّل حالات إنتحارٍ لأمهات... هن ربان السفينة الذي لا يتركها في العاصفة وهنّ الخميرة في معجن البيت.