No Script

اللقاء الأخير

تصغير
تكبير

بيته يشبهه تماماً، يعبر عنه، فاخر أنيق ممشوق مرتفع الهامة، عصري بوضوح لكنه لا يخلو من لمسات تغوص في أعماق شخصيته الشرقية التي لم يتخلّ عنها أبداً.

قبل ثلاثة أيام زرناه في منزله بمنطقة السرة أنا وأخي العزيز الزميل راشد العميري، زيارة للسلام وتقديم الشكر على إهدائه الأخير (كتابه الذي صدر للتو ويحمل عنوان... تجربتي في المشروعات السياحية وحكايات أخرى)... وأهديناه عدد «الراي» بصفحة كاملة تعرض الكتاب الأخير وتحمل عنواناً مميزاً معبراً: «... أكثر من تاريخ لمحمد السنعوسي».

دخلنا من البوابة العالية لبيته المنيف، ومنها إلى المصعد ومنه إلى صالة يومية في الطابق العلوي تحولت غرفة طبية له بعدما أنهكه (المرض الشين)... كان مستلقياً على ظهره، لا يقوى على الجلوس ولا حتى على مد يده للمصافحة، أم طارق الوفية الحنون كانت هنا... مع الأديبة ليلى العثمان وصديقه سمير الغربللي الذي كان ممسكاً طوال الوقت بيمين أبي طارق وعيناه حمراوان اغرورقتا بالدموع.

صوته الذي طالما صدح لسنوات طوال وخاض صولات وجولات وراء الشاشات وأمام الندوات وعلى مقاعد الوزراء بالكاد يُسمع الليلة وهو يرحب بنا، ويقول لنا بصوت أنهكته السنون وهدّه المرض... (والنِّعم) بعدما عرفناه بأسمائنا خوف ألا يكون قد عرفنا، فإذا به يعرفنا تمام المعرفة.

شكرناه وفتحنا له الصفحة التي تعرض كتابه... رمقنا بنظرات الرضا والامتنان... تحدثنا قليلاً معه... ثم قبلنا يده التي لم يقوَ حتى على سحبها، غادرنا والوجوم يسيطر علينا، انعقدت ألسننا وساد الصمت الحزين طوال رحلة العودة، صمت يجتر الذكريات ويستعيد كل تميز وكل إبداع وكل قوة وكل مبادرة وكل شجاعة أبداها هذا الرجل في كل منعطف من منعطفات حياته... شريط ذكريات بالغ الصخب والطول والتنوع استعرضناه ونحن صامتان، نعلم أن حربه مع المرض قد حُسمت... ولا راد لقضاء الله.

عزاؤنا اليوم أن تاريخ محمد ناصر السنعوسي بين يدينا... وتاريخه أكثر من تاريخ بالفعل... تاريخ في الإعلام بكل أنواعه من تأسيس التلفزيون إلى رعاية المبدعين إلى التقديم وصولاً إلى تسلم حقيبة وزارة الإعلام والحروب التي فُرِضَ عليه الانسحاب القسري منها لمنعه من مطارحتهم المنطق والعقل في بيت الأمة.

تاريخ في الإبداع، تاريخ في الإنجازات، تاريخ في السياحة، تاريخ في الجرأة، تاريخ في المواجهات... وتاريخ في الحرص على بناء العقول والبحث عن المتميزين ورعايتهم.

الراحل الكبير (بوطارق)... مدادنا لا يكفي لإعطائك كل ما تستحق... اركن الآن إلى الراحة مطمئناً إن شاء الله وأنت بين يدي العادل الحكيم الرحمن الرحيم.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي