سيندم العراقيون طويلاً على خروج مصطفى الكاظمي من موقع رئيس الوزراء، خصوصاً أنّ الرجل كان يتطلع إلى إعادة العراق إلى العراقيين، على الرغم من اعتراض من سماهم «الحيتان» على كل خطوة تقدم عليها الحكومة. كان يعمل من أجل ذلك في موازاة السعي إلى إعادة تموضع للعراق في المنطقة بصفة كونه لاعباً أساسياً فيها وليس مجرد تابع لـ«الجمهوريّة الإسلاميّة» في إيران.
لم يكن مطلوباً يوماً من العراق أن يكون معادياً لإيران، بغض النظر عن طبيعة النظام في طهران. كذلك، لا يمكن للعراق في الوقت ذاته الاستغناء عن عمقه العربي، خصوصاً عمقه الخليجي. هذه بالفعل معادلة صعبة، يظهر كلّ يوم أن حزب «الجمهوريّة الإسلاميّة» الإيراني الموجود في العراق لا يمكنه القبول بها بأي شكل.
لم يكن مسموحاً للكاظمي إكمال مهمته، على الرغم من أنّه كان بين العراقيين القلائل الذين باتوا يعرفون المنطقة والعالم وما يدور فيهما. كان يعرف أن النفط ليس كلّ شيء وأن الثروة الإنسانيّة تبقى الأهمّ. أعطى دليلاً على ذلك أن دولاً مثل سنغافورة وتايوان، باتت دولاً مزدهرة تمتلك احتياطات ماليّة ضخمة، على الرغم من عدم امتلاكها لثروات طبيعية. مثل هذه الدول الغنيّة «تستورد حتى الحصو» على حد تعبير الكاظمي.
كانت الكلمة التي ألقاها الكاظمي في ما يمكن أن يكون الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء برئاسته في منتهى الوضوح. كانت تشريحاً علمياً للوضع الذي واجهه رئيس الحكومة العراقية المستقيلة معتمداً «الصبر والصمت». الأهمّ من ذلك كلّه، أنّه للمرة الأولى منذ قيام نظام جديد في العراق، بعد العام 2003، هناك من يعتمد لغة الأرقام. انسحبت لغة الأرقام على مصطفى الكاظمي نفسه الذي كشف تعرّضه لثلاث محاولات اغتيال كانت آخرها في نوفمبر 2021 عندما تعرّض منزله في بغداد لهجوم بواسطة طائرات مسيّرة.
انسحبت لغة الأرقام أيضاً على تحسن الوضع الاقتصادي للعراق في أثناء وجوده في السلطة. ارتفع الاحتياط من العملات الصعبة إلى 85 مليار دولار، كما ارتفع مخزون الذهب لدى الدولة العراقية إلى 134 طنّاً. أرادت حكومة الكاظمي، خصوصاً عبر وزارة المال التي كان يتولاها علي علّاوي، صنع فرصة أمل لدى العراقيين. في البداية وفي النهاية، مطلوب مكافحة الفساد المستشري.
كان الكاظمي أكثر من واضح عندما قال إنّه نبّه باكراً إلى ما يحصل في مجال الاستيلاء على عائدات الضرائب منذ العام 2021. تبين الآن أن شركات صيرفة تابعة للميليشيات العراقيّة استولت على مليارين ونصف المليار دولار من عائدات الضرائب بطرق ملتوية. قد يتبيّن في المستقبل أنّ المبلغ أكبر من ذلك بكثير...
من الواضح أن مصطفى الكاظمي يعرف تماماً ما الذي يدور في العراق. لذلك قال: «إن حكومته قدمت، منذ سنة، كل الوثائق والأدلة والقرائن التي تساهم بكشف الحقيقة ومعرفة المعتدين على المال العام» في تعليق على التحقيقات الجارية في شأن سرقة 2.5 مليار دولار من عائدات الضرائب.
بات واضحاً أنّ لا مكان في العراق لأشخاص مثل الكاظمي. قام الرجل بما يستطيع القيام به. أنقذ ما يمكن إنقاذه. كلّ ما يمكن قوله إنّ العراق دخل مرحلة جديدة في ضوء تمكن إيران من إعادة وضع يدها على العراق. لم تخرج إيران من العراق يوماً، منذ العام 2003، لكنّ الجديد في الأمر أن الرهان على الزعيم الشيعي مقتدى الذي فاز في انتخابات أكتوبر 2021 لم يكن رهاناً في محلّه.
تبيّن بكل بساطة أنّ مقتدى الصدر لا يعرف ماذا يريد. أساء إلى كل من تحالف معه قبل أن يسيء إلى نفسه وذلك لحظة طلب من النواب التابعين له الاستقالة. ترك مجلس النواب العراقي في عهدة الإطار التنسيقي، أي الأحزاب الموالية لـ«الجمهوريّة الإسلاميّة».
أخذ الكاظمي علماً بما حدث، كذلك الزعيم الكردي مسعود بارزاني الذي عقد صفقة أوصلت عبداللطيف رشيد إلى موقع رئيس الجمهوريّة. فعل ذلك من أجل قطع الطريق على إعادة انتخاب برهم صالح رئيساً. هناك ما صنعه الحداد بين الرجلين. في المقابل، قبل بارزاني أن يكون محمد شياع السوداني مرشّح الإطار التنسيقي رئيساً للحكومة خلفاً للكاظمي.
لا يمكن القول إن السوداني رجل نوري المالكي، الذي لا يخفي تبعيته لإيران، بل يزايد إيرانياً على النظام الإيراني نفسه، لكن ليس في استطاعة رئيس الوزراء الجديد الخروج كلّياً من عباءة المالكي.
مع خروج مصطفى الكاظمي من السلطة، هذا إذا استطاع السوداني تشكيل حكومته، سيكون العراق مختلفاً. ستكون هناك فرصة ضاعت على العراق والعراقيين.
لكن الكاظمي، الذي لم يخف دعمه للسوداني متمنياً له النجاح، سيظل رجل المستقبل العراقي. الكلام هنا، عن نموذج الكاظمي كسياسي عراقي يبحث عن قيام بلد يمتلك دوراً خاصاً به لا يكون تابعاً لإيران.
هل يسمح النظام العراقي القائم منذ العام 2003 بذلك؟ هل يستطيع مجتمع ينتج زعماء من نوع مقتدى الصدر أو نوري المالكي وكثيرين غيرهما من قادة ميليشيات مذهبيّة منضوية في «الحشد الشعبي» تطوير نفسه؟
سيعتمد الكثير في العراق على ما يجري في إيران حيث بات مستقبل النظام مطروحاً بشكل جدّي. توجد ثورة شعبية حقيقية في إيران تقودها المرأة والجيل الشاب. تشمل هذه الثورة على النظام كلّ المناطق والشعوب الإيرانية. إذا كانت هذه الثورة، التي قد يتمكن «الحرس الثوري» من قمعها، أثبتت شيئاً فهي أثبتت أن لا وجود لنموذج قابل للحياة، تستطيع «الجمهوريّة الإسلاميّة» بقيادة «المرشد» تقديمه لا داخل إيران ولا خارجها. ليس لدى النظام الإيراني من بضاعة يصدرها غير ثقافة الموت والبؤس...
يبقى سؤال يمكن طرحه في ضوء ما استطاعت حكومة الكاظمي تحقيقه من نجاح نسبي في ظروف في غاية التعقيد. السؤال: أين القوى الحيّة في العراق وهل من مجال كي تلعب دورها في حال حصول التغيير الكبير في إيران؟