No Script

مجرد رأي

عندما بكى رئيس الوزراء

تصغير
تكبير

في الفترة الزمنية التي تمتعت فيها أغلب الدول العربية بالاستقلال، كان في أقصى الشرق جزيرة نائية يكثر فيها البعوض، والمستنقعات أعلنت هذه الجزيرة استقلالها من المستعمر البريطاني.

وجاء عليها لي كوان كأول رئيس وزراء منتخب على دولة صغيرة المساحة، تقارب لحد كبير مساحة جزيرة بوبيان، وشعبها أمي فقير تنتشر فيه النزاعات الأهلية والطائفية، أخرج من الاتحاد الماليزي، لم تمد له يد العون، في مواجهة التحديات التي يواجهها وليس أقلها أنه لا يملك أي موارد، والفساد والأمية ينتشران في دولته.

كل هذه التحديات دفعت لي كوان لأن يظهر على التلفزيون باكياً ويقول جملته الشهيرة، كيف ستعيش سنغافورة؟

لم يستمر بكاء رئيس الوزراء طويلاً، حيث بدأ أولى خطواته بمكافحة الفساد، بلا هوادة، وألزم كل حكومته ارتداء الزي الأبيض، دليل النقاء والشفافية، ولم يكتفِ بالزي الرمزي، بل شن حرباً حقيقية طالت الصغير والكبير، وكل من تسول له نفسه اختلاس أي مبلغ من المال العام، أو تلقي رشوة، حتى أنه يتردد أنه أودع السجن ستة آلاف بتهمة الفساد والرشوة والاختلاس، حتى أصبحت سنغافورة نقية كالزي الذي ترتديه الحكومة.

وفي الوقت نفسه، أطلق لي كوان إسترتيجيته التي عبر عنها بقوله «تطوير المورد الطبيعي الوحيد المتاح في سنغافورة هو الشعب»، لذلك وجه نصف ميزانية الدولة على التعليم وإصلاحاته، وزاد أعداد ابتعاث الطلبة حول العالم، حتى أصبحت أرض البعوض أغنى ثالث دولة بالعالم، وبلا فساد لتتحول لواحدة من أقوى اقتصاديات العالم ومواطنوها من الأكثر ثراء، وتعليماً.

يعيش في سنغافورة حالياً نحو 250 ألف مليونير، كل ذلك كان بسبب إحساس رئيس وزرائها بالمسؤولية في مواجهة العجز، ليحول بكاءه إلى انتصار، بعد أن انتقل إلى العمل من غير مشاعر، لدرجة شرع معها قوانين اقتصادية واجتماعية كثيرة، تعتبر الأشد في العالم، وأغربها إعدام أي شخص يدان بالفساد، وحبس من يمضغ العلكة.

إذاً، الانطلاقة الحقيقية لنهضة الحكومات التي تمتلك الرؤية والقرار، تبدأ بمحاربة الفساد، وباختيار الكفاءات والمواهب للمناصب والوظائف المهمة، لأنه وبكل بساطة في غياب هذا المزيج التنموي، ستذهب غالبية مقدرات خزينة الدولة للفاسدين، سواء من خلال الفساد والسرقة المباشرة أو بسوء الإدارة.

خصوصاً إذا كان صاحب المنصب الحكومي لا يؤدي سوى واجبات تشريفية.

وإذا أسقطنا النموذج السنغافوري الرائع بالكويت، أخذاً بالاعتبار أننا لا نعتمد على أحد في معيشتنا بحكم تصنيفنا عالمياً كدولة غنية، فسنجد بينهما رابطاً رئيساً وهو البكاء، والاعتراف بوجود الفساد محلياً وتعششه لوجود من يرعاه بضمير.

لكن الاختلاف أنه بعد 10 سنوات فقط من بكاء لي كانت موازنة سنغافورة 170 مليار دولار، والبطالة تكاد تكون معدومة.

أما كويتياً فالسنون تمر أمامنا، وما زلنا في محطة انتظار نتائج محاربة الحكومة للفساد، وأثناء ذلك لا نرى على أرض الواقع سوى أن نافذة تراجع ثروات البلاد ومقدراتها تتّسع، والعجوزات تتراكم، وصلت العام الماضي لمستويات تاريخية، ليزداد المشهد المالي كآبة وتعقيداً، وأثناء ذلك لم يجد المسؤولون الحكوميون حرجاً من التأكيد حتى أمام أعضاء مجلس الأمة على شح سيولة الاحتياطي العام، وأن الحكومة قد لا تقدر على دفع رواتب موظفيها!

وفيما لا تنفك حكوماتنا عن التحدث صراحة عن الأزمة المالية المتجذرة التي باتت حسب تصريحاتها تهدد الأمن المالي للكويت، الدولة الغنية نفطياً الصغيرة في تعداد سكانها، غاب عنها الإشارة ولو مجازاً إلى المسؤول عما وصلنا إليه من حالة مالية متردية.

ومن المضحكات المبكيات التي نعيشها في الكويت، وبدأنا نعتاد عليها لقلة حيلتنا وتسليم أمرنا لمن يجيد الكشخة الحكومية أكثر من تأدية واجباته، أنه رغم وجود اتفاق على الجريمة المالية التي نعيشها، وبسببها فقد المواطن دولة الرفاه، بشهادة الحكومة، لم نسمع عن مسؤول واحد سجن بسبب ذلك، حتى من حكم عليه بالسجن لا يزال يتمتع بما سرقه في الخارج.

الخلاصة: عندما نتخلص من الفساد، نستطيع وقتها أن نعقد الآمال على نهضة الكويت، وحتى يحدث ذلك لا نملك إلا الدعاء، والابتهال لرب العالمين بأن تبكي الحكومة بصدق بكاء لي كوان.

ملاحظة: لا نطمح لأن تصل أعداد الفاسدين في السجون الكويتية إلى 6 آلاف مثل أعداد فاسدي سنغافورة، لكن على الأقل نتمنى أن تكون هناك نماذج رادعة، ولو من باب الصحوة الحكومية، بما يؤشر على أن حكومتنا باتت تسلك درب الإصلاح من بدايته.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي