No Script

رأي قلمي

تصنع العجائب...!

تصغير
تكبير

لكل منّا صورة ظاهرة يمكن أن توصف بالحسن أو القبح، وكذلك هناك صورة باطنة، هي عبارة عن هيئة معنوية تامة، فيها من معالم الحسن والقبح ما في الهيئة الظاهرة.

ولا شك أن الهيئة الباطنة لأحدنا أهم من الهيئة الظاهرة، والله - جلّ جلاله - لا يسأل أحدنا عن لون بشرته، أو طول قامته، ولكن سيسألنا عن أحوال قلوبنا ونفوسنا، وهذا يدل على أن قدرة الإنسان على التصرف بأحواله النفسية أكبر بكثير من قدرته على التصرف بأحوال جسمه.

في الحقيقة عندما ننجذب لشخص ما فهذه الجاذبية لا تنبع من الشكل الظاهر، وإنما من جمال الروح، وصفاء النفس، وحسن الخلق، وكثيراً ما انجذبنا لشخص جميل الصورة، وما أن نقترب منه ونتعرف على صورته الداخلية، إلا وينكشف قبح روحه، وعكر نفسه، وسوء خلقه، فنمحو سريعاً ما وجدناه في الصورة الظاهرة.

قوة النفس هي القوة الحقيقية التي نتسلح بها، أما الضعفاء والجبناء فكثيراً ما يمتلكون قوة الجسد، والتي قد لا تنفعهم بشيء، وكثير من الشجعان لا يملكون قوى جسمية خارقة، والذي يميزهم هو القدرة على تجسيد وبلورة قيمهم وأخلاقهم بسلوكيات تعكس قوة الصورة الداخلية، في الوقت الذي يحجم الناس وتضعف قدرتهم على الإقدام في مواجهة الباطل بأنواعه، تجد الشجعان في الصف الأول بكامل جمال أرواحهم وصفاء نفوسهم وحسن خلقهم، يدافعون عن الحق وأصحابه.

نجزم بأن ما هو كامن في نفوسنا من طاقات هو أعظم بكثير من كل الإنجازات التي ينجزها المرء، لكن تلك الطاقات تحتاج إلى تجسيد من خلال الوعي والإرادة والتوظيف، والبرمجة الذاتية، ومقاومة الأهواء والرغبات. كنا نعاني من فساد إداري ومالي، وأساسه هو فساد أخلاقي، من فسدت أخلاقه استمرأ الحرام، واستسهل المحظور والممنوع، اليوم في زمن كورونا انتشر فساد تزوير شهادة فحص خلو الإنسان من فيروس (كوفيد 19)، وللأسف الشديد انتشر على المستوى العالمي، وانتقل إلى مجتمعنا، سمعنا وشاهدنا أشخاصاً يشترون شهادة الفحص بمبالغ زهيدة، تثبت خلوهم من المرض وهم مصابون به، ويحتاجون لحجر مؤسسي أو منزلي حتى لا يعدون ويؤذون غيرهم، إلا أنهم لا يبالون.

كل الأمم تحتفظ بتراث أخلاقي وتورث لأجيالها وصايا أخلاقية محددة، وتمتاز أمة الإسلام بأن أخلاقها لا تخضع للعادات والتقاليد، ولا تتكون مما يفيض على الخاطر، أو نتيجة التأملات الفلسفية، فلدينا مرجعية نظرية تتمثل في الوحي، ولدينا مرجعيات عملية تطبيقية، ونماذج إرشادية هادية، نقتبسها من السّجل النفسي والخلقي لنبينا - عليه السلام - ومن سير صالحي هذه الأمة، وعلى رأسهم الصحابة الكرام - رضوان الله عليهم - ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الأخلاقي الأول، ونفسه هي أصح النفوس وأكثرها توازناً واعتدالاً. والمرء اليوم بحاجة ماسّة أكثر من أي يوم مضى إلى أن يرسخ في نفسه خلق الشعور بالواجب والمسؤولية تجاه ربه - سبحانه - ثم تجاه أسرته وعمله الذي يأخذ أُجرةً عليه، وتجاه مجتمعه وأمّته، الإحساس بالواجب يجعل المرء يتجاوز المصلحة المباشرة والفردية، ليظهر التزامه نحو غيره، والتضحية من أجله، وإن ضعف الشعور بالواجب يتولد عنه تلقائياً ضعف الشعور بالمسؤولية، ويتولد عن ضعف الشعور بالمسؤولية شعور عميق بالتفاهة والعقم والفراغ، وهذا ما يجعلهم لا يبالون بالتزوير وغيره من وسائل وطرق الفساد.

حاجتنا اليوم إلى الأخلاق الحميدة والنفس الإيجابية السويّة تفوق حاجتنا إليها في أي زمان مضى. إن تغيير الأخلاق، وتزكية النفوس شيء ممكن دائماً، والطريق إلى ذلك: مجاهدة النفس، ومراقبة الله - تعالى - وصحبة الأخيار الذين يستفيد ويقبس المرء من أحوالهم وأخلاقهم ما يصحح به أخلاقه وأحواله.

ولا ينبغي الالتفات إلى المثبطين، الذين ينشرون اليأس من تغيير العادات، ويحثون الناس على الاستسلام لدواعي الشهوة والهوى ومرذول الطباع، بقولهم وفعلهم:

- «كل الناس تعمل هكذا فلماذا لا نكون مثلهم ونعمل مثل عملهم» - وحتى وإن كان الناس على خطأ وباطل، الإرادة الصلبة حين تتوافر تصنع العجائب.

M.alwohaib@gmail.com mona_alwohaib

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي