مهّد لانكفائه «أحياناً خطوة إلى الوراء تكون ضرورية لمعاودة التقدّم»

الخروج المدوي للحريري.. الشظايا تصيب الحلفاء والخصوم

تصغير
تكبير

إنه الاثنين الذي يقطع معه الرئيس السابق للحكومة زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري الشكّ باليقين حيال قراره الرسمي في ما خص موقفه من المشاركة في الانتخابات النيابية المقبلة.

وفي حين استمرّت التحركات الشعبية (الأحد) في محيط منزل الحريري دعماً له ورفضاً لعزوفه عن الانتخابات وتأكيداً على أنه «سيبقى في القلب أياً كان قراره»، فإن زعيم «المستقبل» سيحدّد في مؤتمر صحافي عصر الاثنين خياره النهائي وحيثياته، مقدّماً في الوقت نفسه «جردة حساب» بكل ما رافق مسيرته السياسية التي انطلقت على وهج زلزال اغتيال والده الرئيس رفيق الحريري في 14 فبراير 2005.

وفي موازاة تقاطُع المعطيات عند أن الحريري، الذي استقبل مساء السبت رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط وزار عند الثانية من بعد ظهر الأحد رئيس البرلمان نبيه بري، حَسَم موقفه بمقاطعة الانتخابات وهو «صامد» عليه على قاعدة ما نُقل عنه من أنه «في بعض المرات لازم الواحد يخطي خطوة لورا ليرجع يتقدم الى الامام»، فإن من غير الواضح بعد كيف يمكن إيجاد آلياتٍ للحدّ من الأضرار السياسية و«الميثاقية» لهذا العزوف ولا سيما في ضوء المؤشرات إلى ان «تيار المستقبل» لن يخوض استحقاق 15 مايو بترشيحات رسمية، ما يستوجب إدارة دقيقة للمرحلة بحيث يحفظ الحريري «خطوط الرجعة» عبر منْع «تقاسُم إرث» الحريرية السياسية بين الخصوم وترْك جذورٍ لزعامةٍ كرّسها زعيم «المستقبل» منذ 2005 وحتى اليوم وستكون أمام امتحان «البقاء على قيد الحياة» ولو عن بُعد.

وفي موازاة انشداد الأنظار إلى موقف الحريري من الانتخابات، فإن رصْداً يجري للإطار السياسي لهذا القرار، وهل سيكون من ضمن إعلان عدم إمكان المضي بتغطية الواقع اللبناني وما انزلق إليه بفعل التفوّق الإيراني فيه عبر «حزب الله»، مع ما سيعنيه ذلك من تحويل الاعتكاف «شرارة مواجهة» سياسية لن تعفي مجمل الوضعية السنية ولا بطبيعة الحال رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وهو ما تستبعده بعض الأوساط التي ترى أن الحريري الذي لن يوفّر «حزب الله» في معرض توزيع المسؤوليات عما آليه وضع لبنان، سيركّز على الوقائع المباشرة التي دفعتْه لاتخاذ خياره بالانسحاب من الاستحقاق النيابي وليس من الحياة السياسية ولا سيما في ضوء ما شهدته البلاد منذ ما بعد انفجار مرفأ بيروت وعرقلة كل محاولاته لتأليف حكومة اختصاصيين، على أن يتوجّه لجمهور «المستقبل» الذي ترتسم في عيون الكثيرين منه غصةً تكاد أن توازي ما دهم العاصمة في 14 فبراير 2005 حين كانت «تبكي مكسور خاطرها».

وقد حرص الحريري على ملاقاة الحشود في الأحد الماطر على مدخل «بيت الوسط» متوجهاً إليهم بكلمات مقتضبة: «الأيام صعبة، ولكن هذا البيت بيتكم ولن يُقفل ودمي إلكن، اسمعوني غداً».

وبأي حال، فإن من الصعب أن يمرّ عزوف الحريري على حلفائه وخصومه من دون أي تأثيرات قوية مهما أنكر هؤلاء. فأفضل ما في زعيم «المستقبل» إعتداله السياسي والسنّي في وجه القوى المتطرفة، الأمر الذي إستفادت منه القوى السياسية قاطبة، وهو الأمر نفسه الذي سيجعلهم يفتقدون تحالفهم السياسي معه، كما الكثير من التداعيات الأخرى.

القوى المسيحية ستتأثر في شكل جدي، كـ «القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحر» و«الكتائب» والشخصيات المستقلة. ورغم أن الحريري قطع الكثير من جسور العلاقة مع هذه القوى إلا انه تدريجاً، وفي انتظار بلورة الواقع الجديد، سيظهر تأثير تراجع هذه العلاقة، على المستوييْن المسيحي والوطني العام.

منذ العام 2005، كسب الحريري جمهوراً مسيحياً، وكسب المسيحيون صديقاً وحليفاً في معركة السيادة والإستقلال. لا شك أن أول تأثيرات هذه العلاقة هي العفو عن رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، كما بفضل مجموعة من قوى وشخصيات «14 مارس».

مرت العلاقة بين «تيار المستقبل» و«القوات» بكثير من المطبات ومراحل متأرجحة إنتهت بقطيعة تامة بينهما. لكن جمهور الطرفين ظل متماهياً ومنسجماً في متغير حقيقي منذ إنتهاء الحرب. ولا شك في أن خيارات الحريري السياسية التي إضطر إليها تحت ظروف مختلفة سواء في زيارة سورية أو العلاقة مع «حزب الله»، لم تترك ندوباً كبيرة في العلاقة بين الطرفين ولا بين الجمهورين. لكن ما فرّقهما حقيقةً، تَطَوَّرَ منذ التسوية الرئاسية رغم مشاركتهما سوياً في صوغها، وصولاً إلى إستقالة الحريري من السعودية، وإستطراداً إلى كل ما أنتجتْه مرحلة إحتجاجات 17 أكتوبر 2019، وإستقالة الحريري من رئاسة الحكومة وعدم تسمية «القوات» له مجدداً.

كانت للقوات ملاحظات على أداء الحريري خلال التسوية وعلاقته بـ «حزب الله»، لكن القوات التي متّنت علاقتها بشخصيات خارجة من «المستقبل»، أو بالسعودية، لن تتمكن في الإنتخابات أو بعدها، من تكرار تجربة العلاقة مع الحريري، كزعامة سنية كلية. وإذا كان واضحاً إنها تُهادِن الرئيس نجيب ميقاتي، إلا أن ميقاتي معروف تموْضعه في الساحة السنية ومع الثنائي «حزب الله» وحركة «أمل».

ورغم أن القوات و«المستقبل» تقاطعا في مراحل وإختلفا في مراحل لا سيما إنتخابياً، وهما لم يتحالفا بالمعنى الحقيقي في إنتخابات عام 2018، إلا أن العلاقة اليوم بين مكوّنيْن أساسييْن ستتعدى الإنتخابات. وستتكرس خسارة القوات لـ «تيار المستقبل» بالمعنى الذي عرفته العلاقة بينهما منذ عام 2005. وهي بدت أكثر ميلاً إلى عدم التعاطي مع هذا الشأن علناً، حرصاً على عدم زيادة الشرخ الموجود بين القيادتين وإنعكاس ذلك على الحالة الشعبية قبل الإنتخابات، وخصوصاً أن دوائر تعوّل عليها القوات تحتاج فيها إلى أصوات سنية.

وكما القوات كذلك «التيار الوطني الحر»، الذي كسب بفضل الحريري موقع رئاسة الجمهورية، وزيارة رئيس الجمهورية إلى السعودية، وكسب أصواتاً إنتخابية في مناطق ودوائر أساسية في إنتخابات عام 2018.

خاض «التيار الوطني» مرتين معركة وجودية ضد الحريري، بعد عام 2005 وبعد إنهيار التسوية الرئاسية، وفي ما بينهما كان الحريري والتيار يرتبان تسويات في مجلس الوزراء وخارجه وخصوصاً في المرحلة التي كان فيها الثنائي جبران باسيل ونادر الحريري يرتبان أمور العلاقة بين الطرفين. وفي المدة الأخيرة كسر باسيل الجَرة مع الحريري حين وقف بصرامة في وجه عودته إلى السرايا، قبل أن يحاول تدارُك الأمر بعدما ضمن وجود ميقاتي في السلطة. لكن التيار الذي بنى معركته السياسية في جزء منها على الكلام عن محاربة التطرف، بما في ذلك التطرف السني، سيخسر بغياب الحريري و«تيار المستقبل» وجهاً من وجوه الإعتدال السني، وسط الخشية من إستفادة أي طرف من صعود الأصوات المتطرفة. لكنه سيخسر أيضاً نظرية الرجل الأقوى في طائفته، لتبرير إختيار رئيس الجمهورية المقبل. ناهيك عن تداعيات هذا الإنسحاب على الإنتخابات النيابية المقبلة، بعدما حقق التيار فوزاً في عكار والبترون معزَّزاً بصبِّ أصوات سنية لصالحه.

من بعد القوى المسيحية سيكون رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط أكثر المتضررين من غياب الحريري. الخصوصية الدرزية والعلاقة التي جمعت جنبلاط بالحريري، أباً وإبناً، كانت علاقة مميزة. صُوَر الرجلين معاً، كانت توحي بإلفة تتعدى السياسة اليومية. كان جنبلاط أحد الذين رتّبوا التحالف الرباعي عام 2005، وهو أحد أركان الترويكا الرباعية أيام الطائف. حافظ جنبلاط على مساحة مشتركة مع «القوات اللبنانية». ورغم معارضته للعهد، ظل حريصاً على خيوط لم تنقطع معه.

لكن طوال السنوات الماضية، علاقتان ثابتتان ظلتا قائمتين، في قصر المختارة (معقل الزعامة الجنبلاطية)، العلاقة مع الرئيس نبيه بري ومع الحريري. لكن الأخير بقيت له مكانة خاصة، إبن الحليف الشهيد، وأحد أركان مرحلة وقف فيها جنبلاط خطيباً في ساحة الشهداء ضد النظام السوري، وشريكه في تحمل تبعات 7 مايو 2008. لكن هذا الحلف تَوَتَّرَ على خلفية التسوية الرئاسية، والعلاقة مع السعودية تركت آثاراً خفيفة. إلا أن جنبلاط يعرف تماماً معنى انكفاء «المستقبل» المنتشر على تخوم الجبل جنوباً في إقليم الخروب، وأي إستدارة سنية عكس تيار المزاج الشعبي لجمهور «التقدمي» القائم على معارضة «حزب الله». علماً ان جنبلاط الذي يورث الزعامة لنجله تيمور، كان يحتاج إلى ثقل سني حليف يساعد في تمتين موقع تيمور في المعادلة السياسية.

من بين الحلفاء والخصوم، يصبح موقع الرئيس نبيه بري الأشد تأثراً. الأكثر تشبثاً علانية ببقاء الحريري، لا يهادن ولا يساوم في هذه النقطة. بري أحد الأوائل الذين إعترفوا بزعامة الحريري وثبّتوها، وهو أحد الذين ساعدوه في تمتين علاقاته وصداقاته. وريث صديقه وحليفه في الترويكا (الرئيس رفيق الحريري)، نجح في غزل صداقة مع الحريري، قامت على ثوابت أهمها منع التوتر السني - الشيعي.

ورغم محاصرة السرايا والإنقسام بين قوى «8 و14 مارس»، ظلت الحرارة في علاقة بري والحريري على إرتفاعها. لم يتخل أحدهما عن الآخَر. وفي عزّ الإختلافات وتطويق الحريري ومعارضة «حزب الله»، والتشنجات المتعاقبة، بقي التواصل قائماً. الإفتراق الأساسي حصل مع التسوية الرئاسية، إذ كان بري وما زال أشد معارضي عون، ولم يقتنع بموجبات الحريري لإنتخابه، لكن حليفه «حزب الله» غطى التسوية. ومنذ ذلك الحين، شابت علاقتهما بعض الفتور، إلا انه ظل متمسكاً به، قبل 17 أكتوبر وبعده. في الإنتخابات حيث كانا يتفقان على تقاطعات باختيار مرشحين في دوائر حساسة، في الحكومة وتسوياتها الداخلية وتمرير ملفات متبادلة.

وقد إستاء بري من تقديم الحريري إستقالته من الحكومة كما إستاء من تطييره من تشكيل الحكومة بسبب موقف العهد و«التيار الوطني الحر»، وهو لن يهضم خروج الحريري من المعادلة السياسية. ورئيس البرلمان هو من المنادين صراحةً بعودة الزعيم السني إلى الواجهة السياسية وليس الإنتخابية فحسب. ليس للإعتدال السني وحده، وليس لتفكيك الألغام في الشارع السني – الشيعي، فحسب، إنما كذلك لبقاء التوازنات في المشهد السياسي، الذي سيتغير من الآن وصاعداً.

أما «حزب الله» فهو الآخر سيكون أمام حالة جديدة من الواقع السني، بحسب الوريث الجديد. فبعد فترة خصومة، تمكن الحزب وزعيم «المستقبل» من إرساء مساحة مشتركة، تسببت في إنتقاد حلفاء الحريري له. ومن الأخطاء الأساسية التي إرتكبها الحزب كانت في تغطية العهد لإخراج الحريري من السرايا الحكومية. لأن هذا الخروج لا يشبه أبداً إخراجه يوم كان في واشنطن عام 2011. فالمعادلات الإقليمية أصبحت اليوم أكثر خطراً، والأوضاع الإقتصادية والإنهيار الإجتماعي سيساهم أكثر في صعود تنظيمات معارضة أكثر تطرفاً وخطاب أكثر حدة تجاه الحزب، لن تسمح بتهدئة الساحة السنية - الشيعية واللبنانية عموماً. وهو من الآن وصاعداً سيكون على موعد مع تحديات أكثر قسوة على خط العلاقة التي ساهم الحريري في تأطيرها.

... سيكون خروج الحريري مدوياً، وتَراجُع السُنّة من الصفوف الأمامية مدوياً أكثر. فالنظام أصبح كله مهتزاً، وأي خروج لمكوّن أساسي كالسنّة لن يمر من دون تداعيات.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي