«الهوية والسيادة» نظّم ندوة حول إعادة هيكلة الملاك العام في الدولة

لبنان «يختنق» بتخمةٍ في إدارات الدولة.. وجيوشُ «أتباع»

تصغير
تكبير

يعاني لبنان تخمةً في إداراته الرسمية وفائضاً من الموظفين في الملاك العام مع إنتاجيةٍ ضعيفة جداً. ويشكّل هذا العدد عبئاً ثقيلاً على مالية الدولة وأحد «الثقوب السود» التي أدّت إلى الانهيار المالي الذي شهده لبنان منذ العام 2019.إدارةٌ مهترئة، موظّفون مترهّلون لا يلبّون احتياجات الإدارات والمؤسسات العامة وبعضهم «أشباح» يتقاضون رواتب من دون أن يَظهروا على جداول القبض، شغورٌ في مواقع كثيرة يقابله توظيفٌ من خارج الأطر القانونية ويرتكز على زبائنيةٍ سياسيةٍ جعلتْ الجهازَ الرسمي بمثابة «دجاجة تبيض ذهباً» لقوى وأحزاب زرعتْ فيه «جيوشاً» من الأتباع.إنها معضلةٌ مزمنة تتفشّى في الجسم الإداري لدولةٍ تكاد أن تتحول «هيكلاً عظمياً»، من دون أن يلوح في الأفق ما يؤشر لإمكان إيجاد «ترياقٍ» يساهم في إعادة هيكلة الملاك العام بغية الوصول الى نهضة مؤسسات الدولة وإداراتها العامة في خطوة أولى نحو النهوض المالي.«لقاء الهوية والسيادة» برئاسة الوزير السابق يوسف سلامة وبحضور عضو المكتب السياسي ومسؤول العلاقات العربية في اللقاء عامر بحصلي وضيوف مختصّين في المجالات المالية والإدارية والقانونية، على رأسهم رئيس لجنة المال والموازنة في البرلمان اللبناني النائب إبراهيم كنعان، التقوا في ندوة نقاش حول موضوع إعادة هيكلة الملاك العام في لبنان ووضعوا الإصبع على جذور المشكلة وأسبابها والحلول المقترَحة لها.استُهل اللقاء بكلمة للوزير السابق يوسف سلامة أوجز فيها كيف انتقلَ اللقاء من صبغته المسيحية التي اتّخذها يوم نشأ قبل عشرين عاماً الى صبغةٍ وطنية تمتدّ على مدى رحاب الوطن وتمثّل جميع الطوائف لتعالج هواجس هذه الأخيرة وتطرح حلولاً جذرية لأزمة الهوية والسيادة في لبنان وخصوصاً بعدما تفككت الدولة وغابت السياسة لمصلحة شريعة الغاب.وفي كلمته قال سلامة: «تأكّد لنا أن الحلّ في مكانٍ وازِن آخَر، وبأيدي أفرقاء لهم مصالِحُهُم وينتظرون أن تنضج ظروفُ المنطقة والداخل، فانتقلْنا لمعالجة الأسباب المباشرة التي ساهمت في تفكك الدولة وانهيارها وإفلاس المصارف، لنكون مُهيّئين لبناء الدولة الحديثة ساعة يُسمح لنا بالتفاهم على الهويّة، والنظام، وتَوازُن السلطات».وفي إطار موضوع الندوة عرض النائب إبراهيم كنعان بدايةً الأمراض الأساسية والجوهرية التي أوصلت لبنان الى الانهيار المالي ولخّصها بثلاث:"أولها الاستدانة المالية المفتوحة من دون سقف وما توجَّب عنها من خدمة الدين، في حين أن كل البلدان في العالم تُخْضِعُ ديونَها لسقف معيّن. وكانت المادة خمسة من قانون الموازنة تجيز للحكومة الاستدانة من دون سقف بحيث وصلت قيمة الدين العام الى 90 مليار دولار مع فوائد تتخطى 5 مليار سنوياً.والسبب الثاني كلفة رواتب القطاع العام التي كانت تشكّل ثلث موازنة الدولة لا سيما مع وجود نحو 31000 وظيفة خارج إطار التوصيف الوظيفي المعمول به وأن أكثر من 5000 شخص دخلوا القطاع العام في 2018 رغم صدور قانون سابق يَمنع التوظيف قبل إجراء المسح الشامل وإعادة هيكلة الملاك العام وفق حاجات القطاع. وجاءت كل هذه التوظيفات لتنفيعاتٍ سياسية ولا سيما إبان الانتخابات النيابية وكأن السياسيين اللبنانيين يسعون لإرضاء الناس ومحازبيهم من جيوب الناس بتوظيفات لا حاجة فعلية لها.أما السبب الثالث للانهيار المالي فمردّه الى مشكلة الكهرباء المزمنة التي استنزفت الجزء الثالث من ميزانية الدولة".وأكد كنعان أنه «رغم وجود التشريعات الضرورية والتدقيق في الإدارات وإعطاء أرقام المسح بشكل موثّق مع تقارير عن أعداد الوظائف ومَن قام بالتوظيف ومتى، بالتعاون بين لجنة المال وهيئة التفتيش المركزي ومجلس الخدمة المدنية منذ العام 2017، لم يعمد مجلس الوزراء الى اتخاذ إجراءات حاسمة في مخالفاتٍ ارتكبها الوزراء والمؤسسات العامة والبلديات بل شكّل لجنة وزارية لدرس الملف. في حين أنه عند تبليغ ديوان المحاسبة بالتوظيفات غير القانونية يمكن لهذا الأخير إصدار أحكام إذ لديه صلاحيات كسلطة قضائية. ومن هنا اعتبرت لجنة المال والموازنة في المجلس النيابي أن هيئات الرقابة معطَّلة لا مقصِّرة إذ بوجود كل المعلومات المطلوبة لم يُسمح لها باتخاذ قرارات جدية ومُجءدية لتنظيم وضع الإدارة في لبنان في ظل ضغوط سياسية هائلة عليها».وأضاف رئيس لجنة المال والموازنة في البرلمان اللبناني: «اليوم وبعد 7 سنوات من المطالبة، أنجزتْ الحكومة المسحَ الشامل لكل وظائف القطاع العام، لكن ذلك لم يمنعها من تجديد كل العقود حتى بعد إجراء المسح وتبيان وجود موظّفين لا يعملون (...) وليس المسح وحده المطلوب بل تحديد الاحتياجات في الملاكات العامة سواء الإدارية أو العسكرية أو التعليمية وإيجاد الحلول لإعادة هيكلة القطاع العام. وتُعتبر المكننة من أبرز هذه الحلول ولا سيما أن البنك الدولي اعتبر إصلاح الإدارة من أهمّ البنود المطروحة لمساعدة لبنان وكان ثمة اقتراح بتقديم هبة بـ 100 مليون دولار (من البنك الدولي) لمكننة الإدارة، لكن حتى اليوم لا يزال مصير الهبة مجهولاً والمكننة لم تحدث».الإصلاح الفعلي في رأي كنعان لا يرتكز على التشريعات والأرقام «لأنها باتت موجودة وموثّقة، بل على وجود إرادة سياسية للتنفيذ وليس بالتنظير فحسب، وعلى تحرير القضاء وتخصيص محكمة للجرائم المالية لضبط هذا النوع من الإنفاق غير المجدي. لكن حتى اليوم لا تزال الإرادة السياسة للإصلاح غير موجودة رغم توافر كل المعطيات والأرقام للعمل الجدي في إعادة الهيكلة».د. منير راشد رئيس الجمعية الاقتصادية اللبنانية الذي عمل لسنوات طويلة مع صندوق النقد الدولي رأى بدايةً أن لبنان «ليس بلداً مفلساً كما يصفه الصندوق لأن مَن يملك 50 ملياراً بين الذهب و»الكاش«لا يمكن اعتباره مفلساً. فالأزمة في لبنان أزمة سيولة وليس إفلاس. لكن انطلاق صندوق النقد من مبدأ الإفلاس استند الى وجود مبلغ 100 مليار دولار كدين عام على دخل قومي لا يتجاوز 20 ملياراً ما يعني أن دين لبنان بات يبلغ 500 في المئة من الناتج المحلي. وقد طالب مجلس المديرين التنفيذيين في صندوق النقد بخفض الدين أولاً من 500 الى 100 في المئة وذلك عبر شطب ودائع المصارف في مصرف لبنان. لكن المشكلة أن هذا يتطلب أيضاً شطب ودائع الناس في المصارف».ولفت راشد إلى أن «أن افتراض الصندوق أن لبنان بلد مفلس مرفوض»، معتبراً «أن الاتفاق مع صندوق النقد غير وارد لأنه يستحيل شطب الودائع، والحل ليس بشطبها ولا باستردادها بل بتوفير سيولة تكون نسبتها ما بين 10 الى 20 في المئة من قيمة الودائع». وأضاف: «حين يُقرّ قانون يمنع شطب الودائع حينها تعود الثقة الى المودعين ويصبح بالإمكان إعادة جمع السيولة. وهذا يتطلب أيضاً تحرير سعر الصرف بالكامل وإعادة جدولة الدين العام وخدمة الدين لا سيما أن دين لبنان في غالبيته بالليرة وهو من بين الأدنى نسبةً الى الدخل القومي، وتأمين توازن مالي في الدولة مع فائض أولي لتوفير خدمة الدين. كما تقتضي الحلول خصخصة إدارة المؤسسات العامة لتحسين التحصيل المالي ومنع الفساد».وفي مداخلته اعتبر رئيس التفتيش المركزي القاضي جورج عطية أنه استبشر خيراً حين تمّ تكليف هيئة التفتيش من بل لجنة المال والموازنة بدرْس وضع القطاع العام وهيكليته لكن الأمر لم يكن بالبساطة التي تَصَوَّرَها، موضحاَ أن ما كان يُفترض ألا ياخذ وقتاً طويلاً تَطَلَّبَ جهوداً كبيرة وتَجاذُباً مع الإدرات العامة «لأن ثقافة عدم قبول الرقابة هي السائدة في أوساط الدولة وإداراتها».وقال القاضي عطية: «وثّقنا أكثر من 3355 حالة ثابتة من المخالفات الوظيفية، لكن القضاء لم يبتّ فيها، ووجدْنا أن ثمة توصيفات وظيفية لوظائف ليست مذكورة في القانون وهي لا تمرّ عبر وزارة المال بل يتمّ دفع متوجباتها عن طريق فواتير، وأسماء أصحابها غير مذكورة في جداول القبض. لكن للأسف رغم توثيق المخالفات وإحالتها الى ديوان المحاسبة لم تُتخذ إجراءات قضائية بحق المخالفين».وأكد عطية أن إصلاح الإدارة العامة يتطلب تفعيل هيئات الرقابة وتحديثها ودعمها وتعميم ثقافة الرقابة في القطاع العام وإلا فالوضع سيستمر على حاله.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي