نبيل علي صالح / مجتمع المعرفة والبحث العلمي العربي
17 ديسمبر 2009
12:00 ص
1804
أجريت منذ نحو عشرة أعوام تحقيقاً صحافياً ميدانياً عن «البحث العلمي في سورية - جامعة تشرين نموذجاً» لمصلحة صحيفة «الثورة» السورية التي نشرته في حينه مع ما تضمنه من ارقام واحصائيات وشواهد وقراين ولقاءات دلت بمجملها على الحالة المأسوية التي بلغها واقع العلم في مجتمعاتنا العربية، وحجم الخطورة الكبيرة لما يمكن تسميته تجاوزاً «بحث علمي عربي».. ويومها طرحنا السوال التالي باستنكار واستهجان شديدين: هل هناك بحث علمي حقيقي في بلداننا العربية؟
وقد عدت منذ فترة قصيرة، وعلى نطاق اوسع، لمتابعة واستكمال بعض الاسئلة والمضامين العملية التي طرحناها في سياق اعدادنا لهذا التحقيق، وذلك عندما اطلعت على بعض الارقام والاحصائيات العربية والدولية التي تحدثت عن انه ومن اصل ما يقارب من 400 جامعة مرموقة ورفيعة المستوى ومعروفة دولياً لا يوجد اسم لاي جامعة عربية على الاطلاق، في مقابل وجود اكثر من جامعة اسرائيلية ضمن التصنيف ذاته. وهذا ما يجعلنا نستنتج ان اسرائيل تقوم على العلم والمنطق البحثي العلمي، وليس على الجهل والتخلف، اي انه ينطبق عليها وصف مجتمع المعرفة بامتياز، بقطع النظر عن توجهات افرادها ومعتقداتهم المتعصبة وقناعاتهم الاسطورية، وبصرف النظر عن سياساتها ضد العرب والمسلمين غير المبررة باي منطق اخلاقي او علمي او انساني.
نعني بمجتمع المعرفة امتلاك المقدرة الفكرية والعملية على استعمال واستثمار قيم العلم والمعرفة العلمية من اجل ادارة مختلف شؤون وموارد وطاقات المجتمع، واتخاذ القرارات السليمة والرشيدة لتنمية معارف ومهارات الافراد كقاعدة لعملية التنمية الانسانية الشاملة، وذلك بالاستفادة من منظومات وحقائق ونظريات العلم المتعددة، ومنها عملية انتاج المعلومة لمعرفة خلفيات وابعاد الامور بمختلف انواعها. وقد دفعني ذلك كله الى توسيع مضمون تحقيقي الصحافي السابق، ومحاولة التقصي عن طبيعة المعرفة البحثية العلمية العربية، وتقديم دراسة فكرية عن واقع البحث العلمي العربي.
ولابد في البداية من الاشارة الى ان موضوع مجتمع المعرفة والبحث العلمي يرتبط بالنسبة الينا كعالم عربي يقف امام متغيرات وتحولات سياسية واقتصادية ومعرفية هائلة على بداية القرن الواحد والعشرين - ارتباطاً وثيقاً بتقديم رؤية اجمالية موضوعية عامة عن طبيعة الوضع العربي والدولي وظروفه ومستجداته المتعددة في الحقبة الراهنة التي اصبحنا نتعامل معها من منظور مصطلحات فكرية وعملية جديدة فرضت نفسها على واقعنا بقوة ومن دون استئذان، الامر الذي يلزمنا - كنخب مثقفة تبحث عن ايسر وانجع السبل للبدء بتطبيق مشروع النهوض الفكري والعلمي في عالمنا العربي - بضرورة تحليل ودراسة الاستجابات وردود الافعال «السياسية - المجتمعية» العربية المتحركة في سياق تكتيكات واستراتيجيات مختلفة تحاول بلورة مواقف وفتح امكانات عملية متعددة للرد العملي المتوازن والمدروس على تلك المتغيرات والتحديات الخطيرة التي تثيرها تلك الاوضاع والمتغيرات، وذلك بهدف تأمين موقع آمن ومأمون، وبلورة دور فاعل للعرب في المعادلة الكونية والدولية المستجدة والسائدة في عالم اليوم، او تلك التي يمكن ان تقوم في عالم الغد.
ومن الواضح هنا اننا عندما نتحدث عن قضية الاستجابة او رد الفعل الجماعي تجاه متغيرات العصر، فاننا نقصد بها، تحديداً، حركية الفعل السياسي العملي، اي مجموعة السياسات التطبيقية المختصة بايجاد انساق ومجالات عمل، وبلورة مواقف مجتمعية وتعزيزها وتطويرها من خلال خلق واستحداث اليات جديدة للعمل تؤمن ارادة جمعية عامة يمكن ان تعمل في اطار تفعيل تلك الاستجابات على تقدم المجتمع العربي نحو اهدافه وتطلعاته ومستلزمات وجوده الاساسية في الحياة.
من هذا المنطلق، نجد ضرورة ملحة في ترسيم حدود حقيقية وواقعية للوضع العربي المستجد، ودراسة طبيعة التقلبات السائدة على الساحة العالمية كلها بعيداً طبعاً عن المجاملات، على اعتبار ان الانطلاق الفاعل نحو بناء المستقبل والتحكم ببعض مساراته مرهون الى حد كبير بدراسة ظروف وملابسات الواقع الراهن السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وبالنظر الى الحجم الهائل لهذا العمل الفكري، وتعدد عناوينه الثقافية والاجتماعية، وتنوع مواضيعه المعرفية ومساراته العملية، وسعة الافكار والطروحات المتشعبة التي يمكن معالجتها في سياق طرح مفاهيمي ناقد حر يأخذ فقط بالرقم والقرينة والاحصائية ليبني على ذلك رأياً وموقفاً نقدياً، فاننا سنكتفي بدراسة الجانب العلمي التخصصي من هذه المسألة المعرفية الواسعة اي من زاوية (البحث العلمي والتقني العربي الحالي، وذلك من خلال اجراء مراجعة بسيطة لبعض الارقام والاحصاييات القائمة في بعض مؤسسات ومراكز البحث العلمي العربي التي يمكن ان تعطينا رؤية واقعية عن طبيعة هذا البحث السائد في بلداننا. ومن ثم سنحاول تحليل تلك الارقام، واستخلاص العبر والدروس من خلالها، على ضوء مستجداتنا المعاصرة، لنصل في النهاية الى التساؤلات الاستنتاجية التالية، ومحاولة الاجابة عنها وفق الامكانات والمقدمات العملية المتاحة امامنا.
ونبدأ بطرح الاسئلة المحورية التالية:
- هل تتوافر لدينا الامكانات المادية والمعنوية الواسعة والقواعد العملية والمنهجية المحددة التي يمكن ان نرتكز عليها، ونتحرك على طريقها باتجاه بناء حاضر صاعد ومستقبل واعد قبل ان ندرس كيفية تشييد وبناء (هذا المستقبل) والامساك بناصيته؟
- ثم كيف يمكن ان تعمل امة من الامم على امتلاك المستقبل اذا لم تستطع ان تنهض باعباء ومتطلبات الحاضر الذي يجب ان يشكل بحد ذاته قاعدة اساسية لبناء ذلك المستقبل؟
- وما الاستراتيجيات التي وضعتها امتنا في لحظتها الراهنة بما تحمله في داخلها من عوامل الضعف والتخلف والتبعية العلمية لمواجهة تحديات قيام حاضرها قبل ان تبدا بالسيطرة على مستقبلها؟
ويظهر للمتأمل في واقع الفعل «السياسي-المجتمعي» العربي الراهن، ان ردود فعل الدول العربية، عموماً، على مخاطر وتحديات العصر المتنوعة والمتسعة والمتحولة تتسم بالاخفاق والفشل في فهم وادراك حجم التطورات السياسية والاجتماعية العالمية. وهذا ما يتجلى بصورة اكبر في فقدان الشعور العملي بضرورة الاسراع في تأمين استجابة الهياكل الوطنية المحلية في عالمنا العربي للحجم الواسع لمجمل تلك التطورات التي قد تظهر في الحاضر او في المستقبل. ولا تعني هذه النتيجة (او هذا الحكم شبه المعياري) ان الوطن العربي قد بقي خارج نطاق دائرة التأثر بتلك الاحداث الكونية الجسام، لكنه بدأ بالعمل، جدياً، على مستوى تطبيق سياسات جديدة في شتى ميادين العمل اليومي كله. لكننا نجد ان معظم تلك السياسات - التي مثلتها مسيرة الاصلاح في معظم الدول العربية - مليئة بالتعثر والتخبط والتشتت، ولم تعط النتائج المطلوبة منها حتى الان. فمثلاً على صعيد البحث العلمي والتقني (وهو موضوعنا الاساسي هنا) لاحظنا على الدوام من خلال استقرائنا لمجموعة البيانات والاستبيانات المسجلة والمتوافرة في شأن هذا الموضوع ان هناك ازمة علمية واضحة تظهر في غياب منظومة عربية متكاملة لنقل المعرفة والخبرات، واستغلالها في ميدان التنمية الفردية والاجتماعية وفي مجال التطوير التقني والتكنولوجي.
وعندما نراجع ادبيات عمل البحث العلمي العربي كلها في الوقت الحاضر - الخاصة بدراسة مشاكل البحث العلمي وتحليل واقعه القائم حالياً - نلاحظ ان تلك الادبيات تكاد تجمع في تقاريرها الخاصة والعامة على خمسة امور اساسية، هي:
الاول: انخفاض عدد الباحثين العلميين الحقيقيين المشتغلين بالبحوث العلمية العربية بالمقارنة مع الدول المتقدمة ومع المعدل الوسطي العالمي نفسه.
الثاني: هشاشة وضعف البنية المؤسساتية والعلمية العربية بصورة عامة، وعدم قدرتها العملية على تحقيق ادنى معدلات الاستجابة الفاعلة والمؤثرة للتحديات التقنية الهائلة.
الثالث: ضعف المستويات الاكاديمية على صعيد قبول الطلبة في الجامعات، وضعف مستويات الترقية بالنسبة لاعضاء الهيئة التدريسية، وعدم موضوعيتها، وقلة المشاركة المنتجة في المؤتمرات الدولية من اجل الاستفادة وتبادل الخبرات والنتائج العلمية، وسرعة تطبيق الاستخلاصات والاستنتاجات والانتفاع بها.
الرابع: نقص مردودية الباحث العربي، وتخاذله عن البحث والعمل نظراً لقلة تعويضه وحافزه المادي والمعنوي، حيث ان الكثير من هؤلاء الباحثين ان لم نقل كلهم- ينظرون الى البحث العلمي من زاوية انه فرصة لتحسين احوالهم المعيشية وتأمين متطلباتهم الحياتية، وهذا من حقهم طبعاً، ولكن بشرط ان تكون لبحوثهم نتائج ميدانية عامة على صعيد خدمة مجتمعاتهم.
الخامس: سيطرة الشكليات والبيروقراطية، وانتشار الفساد في داخل الجسم العلمي العربي كنتيجة طبيعية للفساد العريض والشامل الذي يضرب اطنابه في داخل البنية السياسية والاقتصادية الحيوية لبلداننا العربية. ومن ابرز مظاهره الواضحة والصريحة هي في ايفاد كثير من الباحثين غير المؤهلين وممن لا تنطبق عليهم ادنى شروط الايفاد العلمية الى المؤتمرات والندوات وورشات العمل التي تنظمها كثير من الدول المتقدمة، ليس من اجل تقديم بحوث علمية جديدة، او الاحتكاك بالتجارب العلمية الخارجية للاستفادة منها في الداخل، وانما يكون الهدف من تلك الايفادات الحصول على المخصصات المالية، والسياحة في بلدان جديدة على نفقة الدولة.
نبيل علي صالح
كاتب وباحث سوري، وهذا المقال منشور بالتعاون مع مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org
وقد عدت منذ فترة قصيرة، وعلى نطاق اوسع، لمتابعة واستكمال بعض الاسئلة والمضامين العملية التي طرحناها في سياق اعدادنا لهذا التحقيق، وذلك عندما اطلعت على بعض الارقام والاحصائيات العربية والدولية التي تحدثت عن انه ومن اصل ما يقارب من 400 جامعة مرموقة ورفيعة المستوى ومعروفة دولياً لا يوجد اسم لاي جامعة عربية على الاطلاق، في مقابل وجود اكثر من جامعة اسرائيلية ضمن التصنيف ذاته. وهذا ما يجعلنا نستنتج ان اسرائيل تقوم على العلم والمنطق البحثي العلمي، وليس على الجهل والتخلف، اي انه ينطبق عليها وصف مجتمع المعرفة بامتياز، بقطع النظر عن توجهات افرادها ومعتقداتهم المتعصبة وقناعاتهم الاسطورية، وبصرف النظر عن سياساتها ضد العرب والمسلمين غير المبررة باي منطق اخلاقي او علمي او انساني.
نعني بمجتمع المعرفة امتلاك المقدرة الفكرية والعملية على استعمال واستثمار قيم العلم والمعرفة العلمية من اجل ادارة مختلف شؤون وموارد وطاقات المجتمع، واتخاذ القرارات السليمة والرشيدة لتنمية معارف ومهارات الافراد كقاعدة لعملية التنمية الانسانية الشاملة، وذلك بالاستفادة من منظومات وحقائق ونظريات العلم المتعددة، ومنها عملية انتاج المعلومة لمعرفة خلفيات وابعاد الامور بمختلف انواعها. وقد دفعني ذلك كله الى توسيع مضمون تحقيقي الصحافي السابق، ومحاولة التقصي عن طبيعة المعرفة البحثية العلمية العربية، وتقديم دراسة فكرية عن واقع البحث العلمي العربي.
منذ 8 ساعات
منذ 8 ساعات
ولابد في البداية من الاشارة الى ان موضوع مجتمع المعرفة والبحث العلمي يرتبط بالنسبة الينا كعالم عربي يقف امام متغيرات وتحولات سياسية واقتصادية ومعرفية هائلة على بداية القرن الواحد والعشرين - ارتباطاً وثيقاً بتقديم رؤية اجمالية موضوعية عامة عن طبيعة الوضع العربي والدولي وظروفه ومستجداته المتعددة في الحقبة الراهنة التي اصبحنا نتعامل معها من منظور مصطلحات فكرية وعملية جديدة فرضت نفسها على واقعنا بقوة ومن دون استئذان، الامر الذي يلزمنا - كنخب مثقفة تبحث عن ايسر وانجع السبل للبدء بتطبيق مشروع النهوض الفكري والعلمي في عالمنا العربي - بضرورة تحليل ودراسة الاستجابات وردود الافعال «السياسية - المجتمعية» العربية المتحركة في سياق تكتيكات واستراتيجيات مختلفة تحاول بلورة مواقف وفتح امكانات عملية متعددة للرد العملي المتوازن والمدروس على تلك المتغيرات والتحديات الخطيرة التي تثيرها تلك الاوضاع والمتغيرات، وذلك بهدف تأمين موقع آمن ومأمون، وبلورة دور فاعل للعرب في المعادلة الكونية والدولية المستجدة والسائدة في عالم اليوم، او تلك التي يمكن ان تقوم في عالم الغد.
ومن الواضح هنا اننا عندما نتحدث عن قضية الاستجابة او رد الفعل الجماعي تجاه متغيرات العصر، فاننا نقصد بها، تحديداً، حركية الفعل السياسي العملي، اي مجموعة السياسات التطبيقية المختصة بايجاد انساق ومجالات عمل، وبلورة مواقف مجتمعية وتعزيزها وتطويرها من خلال خلق واستحداث اليات جديدة للعمل تؤمن ارادة جمعية عامة يمكن ان تعمل في اطار تفعيل تلك الاستجابات على تقدم المجتمع العربي نحو اهدافه وتطلعاته ومستلزمات وجوده الاساسية في الحياة.
من هذا المنطلق، نجد ضرورة ملحة في ترسيم حدود حقيقية وواقعية للوضع العربي المستجد، ودراسة طبيعة التقلبات السائدة على الساحة العالمية كلها بعيداً طبعاً عن المجاملات، على اعتبار ان الانطلاق الفاعل نحو بناء المستقبل والتحكم ببعض مساراته مرهون الى حد كبير بدراسة ظروف وملابسات الواقع الراهن السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وبالنظر الى الحجم الهائل لهذا العمل الفكري، وتعدد عناوينه الثقافية والاجتماعية، وتنوع مواضيعه المعرفية ومساراته العملية، وسعة الافكار والطروحات المتشعبة التي يمكن معالجتها في سياق طرح مفاهيمي ناقد حر يأخذ فقط بالرقم والقرينة والاحصائية ليبني على ذلك رأياً وموقفاً نقدياً، فاننا سنكتفي بدراسة الجانب العلمي التخصصي من هذه المسألة المعرفية الواسعة اي من زاوية (البحث العلمي والتقني العربي الحالي، وذلك من خلال اجراء مراجعة بسيطة لبعض الارقام والاحصاييات القائمة في بعض مؤسسات ومراكز البحث العلمي العربي التي يمكن ان تعطينا رؤية واقعية عن طبيعة هذا البحث السائد في بلداننا. ومن ثم سنحاول تحليل تلك الارقام، واستخلاص العبر والدروس من خلالها، على ضوء مستجداتنا المعاصرة، لنصل في النهاية الى التساؤلات الاستنتاجية التالية، ومحاولة الاجابة عنها وفق الامكانات والمقدمات العملية المتاحة امامنا.
ونبدأ بطرح الاسئلة المحورية التالية:
- هل تتوافر لدينا الامكانات المادية والمعنوية الواسعة والقواعد العملية والمنهجية المحددة التي يمكن ان نرتكز عليها، ونتحرك على طريقها باتجاه بناء حاضر صاعد ومستقبل واعد قبل ان ندرس كيفية تشييد وبناء (هذا المستقبل) والامساك بناصيته؟
- ثم كيف يمكن ان تعمل امة من الامم على امتلاك المستقبل اذا لم تستطع ان تنهض باعباء ومتطلبات الحاضر الذي يجب ان يشكل بحد ذاته قاعدة اساسية لبناء ذلك المستقبل؟
- وما الاستراتيجيات التي وضعتها امتنا في لحظتها الراهنة بما تحمله في داخلها من عوامل الضعف والتخلف والتبعية العلمية لمواجهة تحديات قيام حاضرها قبل ان تبدا بالسيطرة على مستقبلها؟
ويظهر للمتأمل في واقع الفعل «السياسي-المجتمعي» العربي الراهن، ان ردود فعل الدول العربية، عموماً، على مخاطر وتحديات العصر المتنوعة والمتسعة والمتحولة تتسم بالاخفاق والفشل في فهم وادراك حجم التطورات السياسية والاجتماعية العالمية. وهذا ما يتجلى بصورة اكبر في فقدان الشعور العملي بضرورة الاسراع في تأمين استجابة الهياكل الوطنية المحلية في عالمنا العربي للحجم الواسع لمجمل تلك التطورات التي قد تظهر في الحاضر او في المستقبل. ولا تعني هذه النتيجة (او هذا الحكم شبه المعياري) ان الوطن العربي قد بقي خارج نطاق دائرة التأثر بتلك الاحداث الكونية الجسام، لكنه بدأ بالعمل، جدياً، على مستوى تطبيق سياسات جديدة في شتى ميادين العمل اليومي كله. لكننا نجد ان معظم تلك السياسات - التي مثلتها مسيرة الاصلاح في معظم الدول العربية - مليئة بالتعثر والتخبط والتشتت، ولم تعط النتائج المطلوبة منها حتى الان. فمثلاً على صعيد البحث العلمي والتقني (وهو موضوعنا الاساسي هنا) لاحظنا على الدوام من خلال استقرائنا لمجموعة البيانات والاستبيانات المسجلة والمتوافرة في شأن هذا الموضوع ان هناك ازمة علمية واضحة تظهر في غياب منظومة عربية متكاملة لنقل المعرفة والخبرات، واستغلالها في ميدان التنمية الفردية والاجتماعية وفي مجال التطوير التقني والتكنولوجي.
وعندما نراجع ادبيات عمل البحث العلمي العربي كلها في الوقت الحاضر - الخاصة بدراسة مشاكل البحث العلمي وتحليل واقعه القائم حالياً - نلاحظ ان تلك الادبيات تكاد تجمع في تقاريرها الخاصة والعامة على خمسة امور اساسية، هي:
الاول: انخفاض عدد الباحثين العلميين الحقيقيين المشتغلين بالبحوث العلمية العربية بالمقارنة مع الدول المتقدمة ومع المعدل الوسطي العالمي نفسه.
الثاني: هشاشة وضعف البنية المؤسساتية والعلمية العربية بصورة عامة، وعدم قدرتها العملية على تحقيق ادنى معدلات الاستجابة الفاعلة والمؤثرة للتحديات التقنية الهائلة.
الثالث: ضعف المستويات الاكاديمية على صعيد قبول الطلبة في الجامعات، وضعف مستويات الترقية بالنسبة لاعضاء الهيئة التدريسية، وعدم موضوعيتها، وقلة المشاركة المنتجة في المؤتمرات الدولية من اجل الاستفادة وتبادل الخبرات والنتائج العلمية، وسرعة تطبيق الاستخلاصات والاستنتاجات والانتفاع بها.
الرابع: نقص مردودية الباحث العربي، وتخاذله عن البحث والعمل نظراً لقلة تعويضه وحافزه المادي والمعنوي، حيث ان الكثير من هؤلاء الباحثين ان لم نقل كلهم- ينظرون الى البحث العلمي من زاوية انه فرصة لتحسين احوالهم المعيشية وتأمين متطلباتهم الحياتية، وهذا من حقهم طبعاً، ولكن بشرط ان تكون لبحوثهم نتائج ميدانية عامة على صعيد خدمة مجتمعاتهم.
الخامس: سيطرة الشكليات والبيروقراطية، وانتشار الفساد في داخل الجسم العلمي العربي كنتيجة طبيعية للفساد العريض والشامل الذي يضرب اطنابه في داخل البنية السياسية والاقتصادية الحيوية لبلداننا العربية. ومن ابرز مظاهره الواضحة والصريحة هي في ايفاد كثير من الباحثين غير المؤهلين وممن لا تنطبق عليهم ادنى شروط الايفاد العلمية الى المؤتمرات والندوات وورشات العمل التي تنظمها كثير من الدول المتقدمة، ليس من اجل تقديم بحوث علمية جديدة، او الاحتكاك بالتجارب العلمية الخارجية للاستفادة منها في الداخل، وانما يكون الهدف من تلك الايفادات الحصول على المخصصات المالية، والسياحة في بلدان جديدة على نفقة الدولة.
نبيل علي صالح
كاتب وباحث سوري، وهذا المقال منشور بالتعاون مع مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي