كلمة بعد النقطة

رسالة إلى فينسنت

تصغير
تكبير

فان غوخ أيها الفنان... ربما تكون رسالتي متأخرة عن وقتها، بعيدة كل البعد عن زمانك ومكانك، كتبتها بقلم لم تمسه يدي، وحبر لم يلطخ أصابعي، عبر آلة اخترعت اسمها «الحاسوب».

أعرفك بنفسي... أنا أديبة ولست فنانة، ولكنني أعشق الجمال في كل شيء حتى في عقول البشر وقلوبهم.

وكانت إحدى لوحاتك الجميلة الرائعة تلازمني، حتى أنك تجدها مطبوعة على حقيبتي وقميصي.

وكلما تأملتها تتحرك عواطفي نحو أمور كثيرة منها ما يخص فلسفة الموت والحياة وأيقونة النجاح والفشل، خصوصاً عندما قرأت قصة معاناتك الطويلة.

وكيف غادرت الحياة فقيراً وهزيلاً ومهزوماً، الغريب أن البعض صار يلتفت باهتمام بالغ نحو لوحاتك، وكأنهم عثروا على كنز بين فرشاتك وألوانك تحت أشعة الشمس الذهبية،

مرددين اسمك أمام الملأ باعتبارك أحد مؤسسي الفن المعاصر، فصارت تباع لوحاتك بأسعار خيالية لا يمكنك تصور قيمتها... وأنت الذي عشت حياتك مكتئباً رافضاً لذاتك مرفوضاً ممن حولك، تقتات من أفكارك السوداء، في غرفة صغيرة بائسة لا يقاسمك بها سوى فأر حقير يقفز فوق كرسيك المهترئ، تشتم نفسك ليلاً ونهاراً وتوسمها بالنكرة التي لا تساوي أدنى شيء في هذا الكون... عقلك هذا الذي تحمله داخل صندوق رأسك وترسم به رحلة حياتك، والأشياء التي تأملتها في الكون ما بين البيارق ووحشة المدن، وعبر لون السنابل حين يمتزج بلون الحقل الأخضر، والنجوم البراقة التي تطل من ثقوب السماء الزرقاء وتموجاتها الدائرية، وأيضا معركة الإنسان مع ذاته وقسوة الآخرين عليه.

فتتبلور في أعماقك مشاعر شتى محدثة ضجة فنية هائلة، فتصبغ بها المساحة الصغيرة البيضاء بصبغ خاص مميز تعجنه بفرشاتك، إنها العبقرية في مزج الألوان بصدى العالم المرتمي خلفها، أيها الفنان المكتئب أنت مبدع حقاً... ورغم أنك تعلم ذلك ولكنك في إحباط دائم مع نفسك.

وربما كنت تشبه بعض المبدعين الذين يتنقلون روحياً وفكرياً إلى كل بقعة في الأرض حتى التي لم يطؤوها، ويتداخلون مع النفوس البشرية بتنوعها، ولا يترددون في هجران مواطنهم والبعد عن أحبتهم، إنهم يعشقون الأسى كما يعشقون الانغماس في أعمالهم الفنية والأدبية، ويتمتعون بالألم النفسي بالضبط كتمتعهم بالصخب والمرح، وأقولها بكل قناعة ومع احترامي لكل المبدعين... فهم ليسوا سوى مجانين يرتدون بزات متواضعة، ويتمتعون بابتسامات خجولة وبريئة، لكنهم فاشلون في تعاطيهم مع الأحداث المفاجئة وتعاملهم مع أقرب الناس إليهم.

لذلك لا عجب إن كنت ممن يتصارع مع جنونه وفشله، حينما أخفقت في إقناع أحبتك بك بقطع شحمة أذنك!

ولكنني في الوقت نفسه أتعاطف معك، فكم هو موجع أن تمتلك حساً إبداعياً وتحاط بالتافهين وتعاني من تنمرهم واستخفافهم بالشيء الوحيد الذي تولعت به، وامتزجت به روحك وصار أقرب إليك من أي شخص عزيز.

العالم الذي عانيت منه لوحدك، واقتصصت منه عبر اقتصاصك من نفسك بطلقة من رصاص على أحشائك، فتخلصت منه بإنهاء وجودك وكآبتك المستمرة، فهل كنت أحمق في تلك اللحظة؟ أم أحببت تجربة الغباء بتضحيتك بحياتك؟

هذا الفعل الإجرامي تجاه ذاتك، قطع عليك كل ما جاء من خير لك... ومنع عنك متعة النجاح والزهو، والثمن من لوحاتك، ودفنت كأي شخص مهمش، معدم ومريض، فهل كنت وجه نحس على نجاحك؟!

أيها الفنان المبدع... نصيحتي لك: تمسك بترابك... لا تدعهم يعرضون قبرك للبيع.

anwar.taneeb@gmail.com

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي