قبل السلام والكلام، لا يحقّ للمصارف اللبنانية احتجاز أموال المودعين فيها، أكانوا لبنانيين أو سوريين أو من أيّ جنسيّة أخرى.
هذه جريمة في حقّ لبنان أوّلا.
جريمة، كان يفترض أن تكون هناك سلطة قادرة على الحؤول دونها.
ما حدث في لبنان سرقة موصوفة بكلّ معنى الكلمة، هي نتيجة طبيعية لمرحلة الوصاية السورية ثم الوصاية الإيرانية القائمة على معادلة في أساسها تغطية السلاح للفساد.
هذا لا يمنع من طرح سؤالين في غاية البساطة على رئيس النظام السوري بشّار الأسد بعد إثارته فجأة لموضوع مليارات الدولارات التي أودعها مواطنون سوريون في مصارف لبنان.
السؤال الاوّل: ما الذي حمل مواطنين سوريين يمتلكون مبالغ صغيرة أو كبيرة بعشرات ملايين الدولارات على إيداع هذه الأموال في لبنان؟ السؤال الثاني: لماذا استفاق رئيس النظام السوري في هذه الأيّام بالذات على وجود هذه المبالغ الكبيرة في المصارف اللبنانية؟ الجواب عن السؤالين أنّ النظام السوري في حال هروب مستمرّة إلى أمام.
لا يستطيع القول صراحة للسوريين أنّه انتهى منذ سنوات عدّة وأن الهروب إلى أمام وتحميل الآخرين مسؤولية ما آلت إليه سورية لا يفيد في شيء.
ما يفعله بشّار يصب في تحقيق هدف واحد هو تفتيت سورية وتكريس الاحتلالات الخمسة القائمة ( الإيراني، الإسرائيلي، الروسي، الأميركي، التركي) في غياب أي تسوية سياسية في الأفق.
انهار النظام المصرفي اللبناني، الذي يشكّل العمود الفقري لاقتصاد البلد لأسباب عدّة.
من بين هذه الأسباب الفساد.
وهو فساد تضاعف حجمه مرّات عدّة في أثناء الوجود السوري في لبنان، خصوصاً بعد العام 1990 عندما بدأ عهد الوصاية السورية المباشرة على البلد إثر دخول الجيش السوري قصر بعبدا ووزارة الدفاع في اليرزة... بفضل بطولات العماد ميشال عون.
كان عون وقتذاك رئيساً لحكومة موقتة تضمّه مع ضابطين مسيحيين.
ارتكب رئيس الجمهورية الحالي في الأعوام 1988 و1989 و1990 كلّ الأخطاء التي يمكن ارتكابها، من أجل تمكين النظام السوري من السيطرة على كلّ لبنان وصولاً إلى خروجه منه عسكرياً في أبريل من العام 2005 مباشرة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه.
يلقي بشّار الأسد المسؤولية على الآخرين بدل امتلاك الجرأة على القيام بعملية نقد للذات، مؤسف أنّه فات أوانها.
لم يتردد في القول إن «جوهر» الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها سورية هو الأموال المحتجزة في المصارف اللبنانية.
المسألة في غاية البساطة.
قبل كلّ شيء، إنّ الأموال السورية في المصارف اللبنانية ليست جديدة.
هناك رجال أعمال سوريون واقتصاديون لعبوا دوراً كبيراً، منذ ستينات القرن الماضي، في تطوير القطاع المصرفي اللبناني.
لا حاجة إلى ذكر أسماء محددة، لكنّ أيّ عاقل في لبنان يعرف تماماً أنّ هجرة النخبة السورية مع أموالها إلى لبنان ليست بنت البارحة.
ما يعرفه هذا العاقل أيضا، أنّ النظام السوري بدأ يتآكل من داخل منذ الوحدة مع مصر ومرحلة التأميمات بين العامين 1958 و1961.
عاد الأمل إلى سورية في 1961 مع بدء عهد الانفصال.
كان هناك رجال سياسة في سورية يحترمون أنفسهم قادوا مرحلة ما بعد الانتهاء من الوحدة.
وضع حزب البعث نهاية لتلك المرحلة الذهبية القصيرة جدّا، التي كان يمكن أن تعيد سورية إلى السوريين، في الثامن من مارس 1963.
منذ ذلك اليوم المشؤوم وسورية في تراجع مستمرّ على كلّ الصعد.
لم تهرب أموال السوريين من سورية فقط.
هرب كلّ سوري يمتلك مؤهلات معيّنة من سورية، خصوصاً بعدما أخذ بشّار الأسد، ابتداء من السنة 2000 سورية إلى مكان آخر.
لم ينتقل دولار واحد من سورية إلى لبنان من دون معرفة النظام.
استفاد النظام إلى أبعد حدود من المصارف اللبنانية، خصوصاً بعدما تحوّل إلى شريك مباشر لها في كلّ فرع فتحته في دمشق أو حلب.
أكثر من ذلك، هناك مصارف مثل «بنك المدينة» ارتبطت بفضائح مرتبطة بمسؤولين سوريين وآخرين لبنانيين.
هذه فضائح، كان رئيس النظام السوري على علم تام بها وبتفاصيلها ولعب دوراً في التغطية عليها.
ففي اللقاء الذي عقده بشّار الأسد مع رفيق الحريري في ديسمبر 2003، قبل سنة وثلاثة أشهر من اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق، كانت لبشّار ثلاثة مطالب واضحة من الحريري، من بينها توقف أجهزة الإعلام الحريرية عن التطرّق إلى فضيحة «بنك المدينة»! استخدم بشّار لغة التهديد في تأكيد أنّ مطالبه أوامر موجهة إلى موظف عنده، هو رئيس مجلس الوزراء في لبنان! هل من شخص يعتبر نفسه رئيساً للجمهورية العربيّة السورية يتصرّف بهذه الطريقة مع رئيس الحكومة اللبنانية، أي مع شاغل الموقع السنّي الأوّل في لبنان؟ يحصد بشّار ما زرعه في لبنان منذ خلف والده قبل عشرين عاماً.
رفض عملياً أي تطوير للاقتصاد السوري أو تحديث له.
رفض أي انفتاح حقيقي على دول الخليج العربي. فضّل اللعب على التناقضات عبر ممارسة لعبة الابتزاز.
بكلمة واحدة فضّل التذاكي على كلّ ما عداه... وصولاً إلى الانهيار السوري الذي لا تفيده كلّ مليارات السوريين الموجودة في لبنان في شيء.
ما زرعه بشّار في لبنان كان الاستثمار في «حزب الله» الذي ليس سوى لواء في «الحرس الثوري» الإيراني. كان طبيعياً أن يؤدي هذا الاستثمار إلى انهيار سورية وانهيار النظام المصرفي اللبناني تمهيداً إلى انهيار كامل للبنان في ظلّ «عهد حزب الله» الذي بدأ في أكتوبر 2016.
لا يمكن تجاهل أن الانهيار السريع لليرة السورية بدأ مع الأزمة المصرفية في لبنان أواخر العام 2019.
هل من يريد تذكّر ذلك بكلّ ما يعنيه من ارتباط للنظام السوري بالمصارف اللبنانية والنظام المصرفي اللبناني؟ لم يتعاطَ بشّار سوى مع أسوأ نوع من السياسيين اللبنانيين.
لم يصادق أي سياسي يمتلك حدّاً أدنى من القيم.
ربّما كان سليمان فرنجية استثناء... أما معظم البقيةن، فكانوا أسماء ارتبطت بالفساد والتبعية لـ«حزب الله».
من هذا المنطلق، لم يعد من مجال سوى مجال الترحّم على سورية وليس فقط على أموال السوريين واللبنانيين في مصارف لبنان...