ميناء حيفا وميناء بيروت... بين الهزل والجدّ

تصغير
تكبير

بلغَ الوضعُ اللبناني درجة من السوء لم يعد فيها المرء قادراً على التفريق بين الهزل والجدّ في قضايا بالغة الأهمّية.

هناك جانب هزلي وآخر في غاية الجدّية للكلام عن أخذ ميناء حيفا لدور ميناء بيروت.

يتمثّل الجانب الهزلي، أو على الاصحّ الفولكلوري، في الكلام عن وجود مؤامرة دولية على لبنان.

تستهدف المؤامرة المزعومة، من بين ما تستهدفه، إلغاء دور ميناء بيروت على البحر المتوسط بصفة كونه الميناء الذي كانت تُفرغ فيه بضائع وجهتها النهائية دول عربية معيّنة من بينها العراق وسورية والأردن ودول الخليج العربي.

في الكلام الجدّي، نعم، يمكن لميناء حيفا لعب دور في المستقبل في مجال إلغاء جزء من الدور الذي يلعبه ميناء بيروت.

هل هذا نتيجة مؤامرة على لبنان أم نتيجة مؤامرة من اللبنانيين على بلدهم وعلى دوره في المنطقة، خصوصاً بعدما حوّل «حزب الله» بيروت الى مدينة إيرانية على البحر المتوسّط؟

هذا هو السؤال الذي يُفترض في اللبنانيين طرحه على أنفسهم بدل الهرب من الحقيقة والواقع وتفادي الاعتراف بأن اللبنانيين تآمروا على ميناء بيروت ودوره وعلى دور بلدهم في المنطقة.

عندما يتصالح اللبنانيون مع مصلحة لبنان أوّلا، لا يعود من مجال الطرح أسئلة ساذجة من نوع إعداد ميناء حيفا، الإسرائيلي حالياً، نفسه للعب دور على صعيد التبادل التجاري في المنطقة والحلول مكان ميناء بيروت الذي تعرّض لتفجير رهيب في الرابع من أغسطس الماضي، أي منذ نحو ثلاثة أشهر أو أقل بقليل من ذلك.

ما الذي يمكن توقعه من بلد، لا يتحرّك فيه رئيس الجمهورية قبل أسبوعين من إبلاغه رسمياً، عبر أحد الأجهزة الأمنية عن تخزين مواد شديدة الخطورة في أحد العنابر داخل الميناء؟ هل ميناء حيفا مسؤول عن ذلك؟

بعض الجدّية يبدو ضرورياً بين حين وآخر.

تبدأ الجدّية بالاعتراف بأن ميناء بيروت استفاد الى أبعد حدود في العام 1948 من قيام دولة إسرائيل وإلغاء الدور الذي كان يلعبه ميناء حيفا إقليمياً.

الجدّية تعني أيضاً، تحمّل كل لبناني مسؤولياته.

من رأس الهرم في السلطة، إلى أصغر موظف في ميناء بيروت، مروراً بالطبع بالأجهزة الأمنية المختصّة الموجودة في الميناء.

لا يوجد في لبنان على الرغم من مرور كلّ هذا الوقت من يسأل مَن وراء الإهمال الذي راح ضحيته ميناء بيروت... أو مَن وراء ما حصل يوم الرابع من أغسطس 2020؟

في النهاية، لا يمكن عزل الكارثة عن كلّ ما يتعرّض له لبنان منذ سنوات عدّة وصولاً الى ذهابه إلى التفاوض مع إسرائيل في شأن ترسيم الحدود البحرية من موقع البلد المفلس.

لا يمكن عزل تفجير ميناء بيروت عن القضاء على دور بيروت وعلى المدينة نفسها وتركيبتها السكّانية وتنوعها. من المناسب في هذا المجال العودة الى كتاب فيليب مانسيل وعنوانه «المشرق (LEVANT) عن ثلاث مدن ساحلية مشرقية كانت لها أهمّية استثنائية وطابعها المتميّز على شاطئ البحر المتوسط.

لم تكن هذه المدن مراكز تجارية فحسب، كانت مراكز ثقافية وفنّية ومالية وذات إشعاع حضاري أيضاً.

الأهمّ من ذلك كلّه، كانت مدناً ذات تنوع سكاني وديني، يقيم فيها مسلمون ومسيحيون ويهود وأُناس من جنسيات مختلفة.

كانت مدناً منفتحة على العالم واللغات الحيّة.

تحدّث مانسيل عن سميرنا في تركيا (اسمها حالياً ازمير) والإسكندرية... وعن بيروت.

مع مرور الوقت بقيت بيروت وحدها كمدينة ذات دور يتجاوز النشاط التجاري.

كانت هناك محاولة لقتلها والقضاء عليها بين 1975 و1990، لكنها استعادت حيويتها وعادت رمزاً لثقافة الحياة مع بدء إعادة بناء وسطها.

لا يمكن عزل اغتيال رفيق الحريري عن فكرة القضاء على ثقافة الحياة في بيروت، كمدينة عربية ومتوسطية وعالمية في الوقت ذاته... ومركز مالي في المنطقة.

من لم يفهم لماذا كان كلّ هذا الحقد لدى النظام السوري على بيروت، لا يستطيع فهم حجم الحقد الإيراني الذي كشفته تصريحات صدرت عن غير مسؤول في طهران بعد وضع الحوثيين (أنصار الله) يدهم على صنعاء في 21 سبتمبر 2014.

تفاخر المسؤولون الإيرانيون الذين تحدّثوا عن الانتصار الذي حققته إحدى أدوات«الجمهورية الإسلامية» في اليمن عن السيطرة على أربع عواصم عربية هي صنعاء وبغداد ودمشق وبيروت.

في انتظار معرفة حقيقة ما جرى يوم الرابع من أغسطس 2020، لا يمكن الهرب من أن مصير بيروت مطروح جدّياً.

لم يعرف اللبنانيون الدفاع عن عاصمتهم ولا حمايتها.

قد يدركون قيمة بيروت في يوم من الايّام، بيروت التي جاءت لهم بالثروة والعيش الرغيد والمستشفى والجامعة والمسرح والرسم والفن، عموماً، وعلّمتهم معنى التعلّق بثقافة الحياة.

لا يستطيع المرء إلّا أن يكون متشائماً، لا لشيء سوى لأنّ كثيرين في أعلى المواقع في السلطة لا يعرفون شيئاً عن قيمة بيروت وأهميتها.

من بين أكثر ما يدلّ على ذلك أنّ «التيّار العوني» لم يتردد في الاعتصام أشهراً طويلة في وسط العاصمة في العام 2007 موفراً الغطاء المطلوب لـ«حزب الله» كي يتابع تدميره لبيروت.

لم يسأل وقتذاك ميشال عون وجبران باسيل، اللذان لا يعرفان بيروت، كم عدد المسيحيين وغير المسيحيين الذين تسبّب هذا الاعتصام في تهجيرهم من لبنان؟ كم عدد المؤسسات التي تسبّب ذلك الاعتصام بإغلاقها؟

لعلّ ما يزيد التشاؤم ان بيروت تبدو في السنة 2020 مدينة يتيمة في ظلّ اليأس العربي من لبنان... الساقط عسكرياً وسياسياً في يد ايران.

نعم بيروت تموت وهناك من يفرح بموتها كونه يريدها ضاحية فقيرة من ضواحي طهران!

لم يأخذ ميناء حيفا مكان ميناء بيروت.

هناك لبنانيون تخلوا عن بيروت وطعنوها في الظهر والصدر في آن... بل ذبحوها من الوريد الى الوريد، يحرّكهم الحقد على ثقافة الحياة لا أكثر.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي