مخيف غياب المنطق في منطقة المشرق العربي. ما حلّ بالعراق وسورية ولبنان من خراب في السنوات الممتدة منذ خمسينات القرن الماضي وستيناته يعطي فكرة عن استحالة التصالح مع المنطق وصولاً إلى الإفلاس اللبناني، وهو إفلاس بكلّ المقاييس، كان في الإمكان تفاديه. يذهب لبنان إلى مفاوضات لترسيم الحدود مع إسرائيل من موقع ضعف في ظلّ انهيار لاقتصاده ونظامه المصرفي يرافقه انهيار آخر لكلّ مؤسسات الدولة باستثناء الجيش، ربّما.
كان قليل من المنطق كافياً في العام 1969 لتفادي توقيع «اتفاق القاهرة» الذي كان يعني بين ما يعنيه التخلّي عن جزء من السيادة اللبنانية وعلى أرض لبنانية أرادت منظمة التحرير الفلسطينية استخدامها لتحرير فلسطين. صارت منظمة التحرير تريد تحرير فلسطين انطلاقاً من جنوب لبنان بعد سنتين وبضعة أشهر من انتهاء حرب يونيو 1967 التي هُزمت فيها مصر وسورية والأردن أمام إسرائيل.
كيف يمكن لمنظمة التحرير تحرير فلسطين انطلاقاً من جنوب لبنان؟ أين المنطق في ذلك؟ لماذا لم يوجد وقتذاك زعيم عربي كجمال عبدالناصر، مثلاً، يقول صراحة إن «اتفاق القاهرة» الذي أُجبر لبنان على توقيعه مع منظمة التحرير كان عملاً عبثياً سيؤدي إلى تدمير لبنان عاجلاً أم آجلاً.
بدل أن يمتلك ناصر ما يكفي من الشجاعة ويعترف بأنّه تعلّم شيئاً من دروس حرب 1967... إذ به يرعى الاتفاق المشؤوم الذي أسّس للكارثة التي وصل إليها لبنان في السنة 2020. ها هو لبنان بعد 51 عاماً على «اتفاق القاهرة» يذهب إلى ترسيم الحدود مع إسرائيل بعدما اكتشف «حزب الله»، الذي ورث سلاحه الإيراني، السلاح الفلسطيني، أن الكلام عن الصلاة في القدس يظلّ كلاماً لا علاقة له بالواقع. يتمثّل الواقع في أن إسرائيل ضمت القدس الشرقية المحتلّة في العام 1967 بموافقة أميركية، فيما العالم يتفرّج. أضاع لبنان، منذ الاتفاق، كلّ الفرص كي يتطور بشكل طبيعي ويتحوّل إلى سويسرا الشرق بالفعل. هاجرت العقول اللبنانية من لبنان بعد اغتيال رفيق الحريري في فبراير 2005. كان الحريري الرجل الذي أعاد الحياة إلى بيروت وحاول من جديد إيجاد مكان للبنان على خريطة الشرق الأوسط.
تبيّن أن ذلك ليس ممكناً. الممكن بالنسبة إلى مرتكبي الجريمة تدمير لبنان حجراً حجراً ومنزلاً منزلاً... وصولاً إلى الذهاب إلى مفاوضات مع إسرائيل، هي في نهاية المطاف مفاوضات مباشرة بغض النظر عن كلّ كلام لا معنى له عن رفع علم الأمم المتحدة وعن وساطة أميركية.
غاب المنطق، فانهار لبنان. غاب المنطق فانهارت سورية حيث كان النظام يعتقد أنّ في استطاعته الاستفادة من انهيار المنطق في لبنان.
ليس معروفاً بعد ما هي الحسابات السورية القائمة، وقتذاك، على أن وضع اليد على لبنان وعلى القرار الفلسطيني سيجعل من سورية دولة عظمى تتسابق الدول الكبرى على طلب رضاها.
تبيّن مع مرور الوقت أنّ غياب المنطق القائم على فكرة اهتمام النظام بسورية نفسها وبالسوريين سيؤدي إلى انفجار كبير لن تقوم بعده قيامة للبلد. ذهبت سورية ضحيّة غياب المنطق والسقوط في فخّ الشعارات الرنانة التي لا طائل منها. خسرت الجولان إلى الأبد، في حين كان في استطاعتها استعادته في عهدي حافظ الأسد وبشّار الأسد.
فضّل النظام السوري الذي تأسس في العام 1970 لغة اللامنطق كي يتفادى استيعاب معنى قرار أنور السادات الذهاب إلى القدس في العام 1977 لإلقاء خطاب أمام الكنسيت. في مارس 1979، وقّعت مصر معاهدة سلام مع إسرائيل. ليس معروفاً إلى اللحظة ما هو المنطق السوري الذي اعتمد من أجل العمل على عزل مصر وقتذاك؟ في النهاية إن النتيجة الوحيدة للسياسة السورية هي ما نشهده على أرض الواقع. هناك انهيار سوري كامل يختزله تحوّل البلد إلى بلد يعيش في ظلّ خمسة احتلالات.
حسناً، إذا كان النظام السوري لم يستوعب في العام 1977 إبعاد القرار الذي اتخذه السادات ومغزاه، كيف يمكن لهذا النظام في العام 2005 تغطية جريمة اغتيال الحريري؟ تبيّن أن لتلك الجريمة، التي بات معروفاً من يقف وراءها، انعكاساتها الكارثية على لبنان وسورية في الوقت ذاته وأن كل ما سيحدث هو أن إيران ستكون قادرة على ملء الفراغ الذي نجم عن خروج الجيش السوري من لبنان. غاب المنطق.
ما نشهده اليوم في سورية هو نتيجة لهذا الغياب الذي يرمز إليه شعار «الأسد أو نحرق البلد». بقي الأسد واحترق البلد.
ما هو المنطق الذي يبرر بقاء الأسد؟ المنطق الوحيد، للأسف الشديد، منطق إسرائيلي يقول إنّ المطلوب إطالة عمر النظام القائم أطول فترة ممكنة وذلك كي لا تقوم قيامة لسورية التي عرفناها في يوم من الأيّام...
في غياب المنطق، يسير العراق بدوره إلى الهاوية. يبدو رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي في وضع لا يحسد عليه على الرغم من كلّ الجهود التي يبذلها منذ تشكيل حكومته كي يعيد العراق إلى العراقيين.
يقول المنطق، بكلّ بساطة أن لا دولة عراقية في ظلّ ميليشيات مذهبية تسيطر على هذه الدولة وعلى مؤسساتها. نجد الكاظمي يستنجد بلغة المنطق التي تبدو غائبة عن أدوات إيران في العراق، بما في ذلك أولئك الذين عادوا إلى بغداد على ظهر دبابة أميركية! كان مفترضاً بعد التخلّص من نظام صدّام حسين أن يتحوّل العراق إلى بلد واعد وأن يكون نموذجاً لما يمكن أن تكون عليه دول المنطقة. تحوّل للأسف الشديد إلى التجربة التي يتوجب على دول المنطقة وشعوبها تفادي السقوط في فخها.
سلمت أميركا العراق على صحن من فضّة إلى إيران. ليس لدى إيران ما تقدّمه للعراق غير إثارة الغرائز المذهبية ودعم الميليشيات المذهبية المنضوية تحت «الحشد الشعبي» كي تكون غطاء محلّياً لها.
أين المنطق في كلّ ذلك؟ كيف يمكن بناء عراق جديد في ظلّ دولة داخل الدولة. كلّ ما يمكن قوله إن وضع الكاظمي ليس سهلاً، على الرغم من كلّ الجهود التي يبذلها، في ظلّ غياب حدّ أدنى من المنطق لدى معظم القوى السياسية، خصوصاً تلك التي تضع المذهب والولاء لإيران فوق كلّ اعتبار آخر.
في غياب المنطق، لا أمل لا للبنان ولا لسورية ولا للعراق. في غياب المنطق لا وجود سوى لمنطق آخر هو منطق الانتحار، أي تدمير الذات. وهذا ما يحصل حالياً في منطقة تمرّ في مرحلة مخاض.